ليل و طرب
06-12-2017, 06:45 PM
هل كان شوقي أمير الشعراء أم شاعر الأمراء ؟!
..
أول من استحدث فكرة ( إمارة الشعر ) في تاريخ الادب العربي هو الشاعر احمد شوقي عندما عقد له المصريون احتفالا في القاهرة عام 1927 م بدار الاوبرا الملكية برعاية الملك فؤاد , ملك مصر آنذاك وقدموا له الهدايا بهذه المناسبة وتوّجوه بلقب (امير الشعراء) ولايزال ذلك اليوم مشهودا في تاريخنا الادبي , ولكن ذلك الباب الذي انفتح على مصراعيه لأحمد شوقي والذي لم يفتح لأحد قبله ولا بعده لاي شاعر اثار كثيرا من الجدل العنيف الذي احتدم بين مجموعة كبيرة من الأدباء والشعراء حول امارة الشعر في الادب العربي , وقبل الولوج في خضم هذا الجدل لابد من القاء نظرة مختصرة حول تاريح الشعر العربي لمعرفة مدى صحة هذه الفكرة.
لم يعرف تاريخنا الادبي هذه اللفظة (إمارة الشعر) في كل العصور التي عايشها ولم يطلقها القدامى على شاعر ما وكان الاجدر ان تكون في العصر الجاهلي عندما كان الادب العربي يعيش عصره الذهبي الذي عرف بتشجيعه للشعر اكثر من اي وقت مضى كما عرف بالاسواق الادبية التي كانت تعقد للمباريات الشعرية فتحضره الوفود العربية من قبائل الجزيرة لإلقاء نتاجها والتفاخر به وقد اشتهرت في تلك الفترة الكثير من الاسواق الادبية كسوق( مجنة) في مكة و(ذي المجاز) خلف عرفات و(المربد) في البصرة و(الكناسة) في الكوفة و(دومة الجندل) و(هجر) وكان اهمها واشهرها سوق (عكاظ) الذي يقول عنه الاستاذ محمد لطفي جمعة في كتابه (الشهاب الراصد ص144-145) وفي ذلك المجمع (سوق عكاظ) كانوا يسمعون لغات القبائل ولهجاتها فما استحسنوه من تلك اللهجات تكلموا به وما لم يستحسنوه هجروه واسقطوه فصارت لهجتهم افصح اللهجات وخلت لهجتهم من مستبشع اللهجات ومستقبح الالفاظ والعيوب.
في تلك الفترة الذهبية للشعر التي عجت بفحول الشعراء لم يؤمر للشعر امير رغم وجود من يستحق هذه الإمارة وبكل جدارة , فلو كانت هذه الفكرة مستحسنة لدى الشعراء لامروا عليهم الامير الفارس امرأ القيس الذي (امتاز بإجماع علماء الشرق والغرب بالابداع وقوة الخيال واذا جاز لمجازف ان شك في احد من الشعراء فأمرؤ القيس آخر من يشك فيه لانه من شعراء الدنيا القلائل الذين ابتدعوا فأبدعوا واختطوا خطة سار عليها من خلفه قصدا او مقلدا) كما في نفس المصدر السابق (ص293) وقد اشار سيد البلغاء والمتكلمين الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام الى هذا المعنى كما في (نهج البلاغة ج4 ص203) بقوله عليه السلام عندما سئل من اشعر الشعراء ؟ فقال(علي ) ((ان القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها فان كان ولابد فالملك الضليل))- (يريد امرأ القيس).
وتلت تلك الفترة فترات بلغ فيها الشعر أوجَه وقمته واحتل منزلة رفيعة خصوصا في الشعر العباسي وكان الشعراء يعدون بالعشرات كلهم نابغة وقد فاق الشعراء في هذه الفترة المتنبي الذي ملأ الدنيا وشعل الناس ولكن لم يطلق عليه اُحد من الشعراء او المؤلفين لقب امير الشعراء .
والآن بعد ان عرفنا ان فكرة امارة الشعر مستحدثة او بالاحرى مبتدعة لابد من الاشارة على انها جاءت في زمان تلاشت فيه البلاغة اوكادت وابتدعت الوان من الادب المبتذل حيث يصف الاستاذ الاديب فؤاد جرداق أدب تلك الفترة فيقول : (لقد اتخمت مكتبة العرب بالترهات والاراجيف مما انتجه وينتجه بعض المتطفلين على مغاني هذه اللغة الشريفة , اقول والحق يشهد ان خزانة الادب العربي قد تقيأت هذه النفايات لهي بحاجة ماسة الى من يبعث فيها الحياة الطاهرة بمؤلفاتهم القيمة ومصنفاتهم الرائعة الباهرة ), فهل كان شوقي هو من بعث في الادب تلك الروح الطاهرة حتى يتوج بهذا اللقب ؟ ولسنا هنا بصدد نقد شعر شوقي فأن ذلك يحتاج الى دراسة طويلة ولكننا ننوه الى ان الكثير من الادباء والشعراء الكبار كانت لهم مؤاخذات على شعر احمد شوقي منهم الكاظمي وميخائيل نعيمة والعقاد والمازني والاخيران كانا بصدد اصدار رسالة لهما اسمها (الديوان) فيها ما يحتوي شعر شوقي من نقاط الضعف التي تعد مآخذ واضحة عليه ويقول مصطفى صادق الرافعي في( رسائله ص71) ((ان شوقي عرض عليهما 200 جنيها ليكفا عن نشرها فلم يقبلا وامر هذه الرسالة شائع في مصر )! ويبدو ان الاديب داود بركات هو اول من اطلق اللقب على احمد شوقي كما في كتاب (ذكر الشاعرين) جمع وترتيب احمد عبيد ص366 عندما يقول (اما السبب الذي دعاني الى تلقيب احمد شوقي بأمير الشعراء هو ان الخديوي عباسا كان يهمل شوقي) ثم يقول من كلام طويل مامعناه ان الخديوي بحاجة الى توظيف شوقي في الخارجية لما بينه وبين الانكليز من المواجهة (فتأييدا لذلك وضع شوقي في مكانه من الادب , وامارة الشعر الى ان قربه الخديوي واناط به كثيرا من المهام فقام بها خير قيام فاولاه ثقته وقدمه على جميع رجاله) حتى يقول (واخذ يتقلب في نعيم المال والترف والبذخ) ولم ينس شوقي وإيلاء نعمته في مدحهم والاطراء عليهم فـ(ظهرت له في الخديوي توفيق - والد عباس - تلك الامداح التي سارت بها الركبان)كما في نفس المصدر من مقال لاحمد زكي ص328 ومما قاله فيهم :
الملك فيكم آل اسماعيلا لازال بيتكم يظلُّ النيلا
اخوان اسماعيل في ابنائه ولقد ولدت بباب اسماعيلا
وكان لاتصاله بالقصور وتفانيه في طلب رضا ساكنيها هو ما دفع حافظ ابراهيم لأن يتفانى خلال ثلاثين سنة بكيل المدح لشوقي في قصائد يخصه بها خوفا من مقام شوقي ومكانته في القصر وبين الاعيان وتزلفا لعله يحظى بمثل ما حظي به شوقي فكان من اشد المتحمسين لهذه الفكرة وقد القى في ذلك الاحتفال قصيدته العينية التي مطلعها :
بلابل وادي النيل بالمشرق اسجعي بشعر امير الدولتين ورجّعي
ويقول فيها :
أمير القوافي قد اتيت مبايعا وهذي وفود الشعر قد بايعت معي
وقد عرف هذا الشاعر بشدة تعصبه لاقليميته , فقد روى مصطفى صادق الرافعي انه – اي الرافعي - نشر مقالا يشيد بشاعرية الكاظمي فغضب لذلك حافظ غضبا شديدا وانفجر بوجه الرافعي وقال:(ان الذي يغيظني ان يأتي كاتب المقال بشاعر من غير مصر فيضعه على رؤوسنا نحن المصريين) ثم يقول الرافعي (وكان تعنت حافظ على الكاظمي لانه غير مصري )وقد ذكرت هذه القصة مفصلة في كتاب (شاعر العرب ص41) للاستاذ عبد الرحيم محمد علي .
اذن لقد كان تنصيب احمد شوقي لامارة الشعر لاسباب سياسية واصبحت المنزلة العليا والكلمة المسموعة والحكم المطلق لمن يملك الصدارة من القصر ضاربا الادب جانبا ومتحديا الواقع والافضلية كما يقول العقاد في كتاب (الديوان ج1 ص6) ((ومن اعتادوا ان يرتبوا المواهب على حسب الوظائف والالقاب فمن هؤلاء من كنت تسأله ترتيب الشعراء فيقول لك اولهم فلان لانه باشا وثانيهم فلان لانه بك وثالثهم فلان لانه حامل نيشان , فطائفة الافندية والمشايخ وهلم جرا كأنما يرتبونهم في ديوان التشريفات لا في ديوان الادب )) ويقول الشاعر محمد الاسمر (اما نحن فقد نشأنا في مصر بين جو من الالقاب الشعرية فهذا شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية او امير الشعراء وهذا شاعر القطرين او شاعر الاقطار العربية وهذا شاعر النيل واكبر الظن ان الذي دعا الى هذه الالقاب هو ان شوقي كان شاعر الخديوي الذي كان يحكم مصر , فليكن شوقي لاجل ذلك امير الشعراء او خديوي الشعراء ومادام شوقي يلقب بلقب فلابد لخليل مطران ان يلقب بلقب فليكن شاعر القطرين ثم ليكن بعد ذلك شاعر الاقطار العربية بقي حافظ ,ايتركه الذين يكرهون الخديوي بدون لقب فليكن شاعر النيل).
ومن المعارضين لهذه الفكرة ايضا الشاعر الكبير احمد رامي الذي يقول (وفكرة الامارة هذه مستحدثة لم نر لها مثيلا في العربية وكل ما وصل الينا في هذا الخصوص هو ان النابغة الذبياني كان يحكم بين الشعراء فيميز بين الغث من السمين والتكريم يكون لوفرة الانتاج وعلى ذلك فأمارة الشعر تتعارض في نظري مع الفن السليم) وهناك معارضون آخرون منهم مارون عبود الذي وصفها – اي امارة الشعر- (سخافة بلقاء) واحمد الزين (الشعر فن ليس له امير) وعلي محمود طه (لامعنى لهذه الامارة وليس هناك صلة بين الامارة ورسالة الفن) وبقي الجدل محتدما فقد فتح الباب ولايمكن اغلاقه بسهولة فجاء الدكتور طه حسين ليعترف بأن امارة الشعر العربي انتقلت الى العراق بعد وفاة احمد شوقي وقد ظل الدكتور يتألم لهذا الانتقال حتى اخذ يتحدث عنه كثيرا في مقالاته وقد عين في وقتها للامارة الشاعرين الزهاوي والرصافي مما حدا بالشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ان يرسل اضبارة من شعره الى الدكتور طه حسين ويقول له:(لو كنت قرأت هذا الشعر لما وجهت الزعامة الى غير هذا الشاعر) وقد ساء السوريين في وقتها رأي الدكتور في انتقال الامارة الى العراق فقالوا(ما للدكتور يرسل الزعامة الى العراق في طيارة وكان يكفيه ان يرسلها الى صاحبها مطران في سيارة) وقد تأثر الزهاوي من مبايعة الشعراء لشوقي بإمارة الشعر كثيرا فقال وهو في مقهى امين ببغداد:
قالوا لشاعر مصر دار الامارة تبنى
فقلت يا اهل مصر منكم امير ومنا
فكل يشعر ان حقه قد اغتصب وانه ظلم في امارة شوقي عليه وكل يشعر ان شوقي ليس بأفضل منه ان لم يكن دونه فقال الشاعر الكبير محمد الهراوي في استنكار وانفة :(انه بايع الشاعرين مبايعة علي للشيخين) وقد عاب الكثير تطرف المتزلفين الذين هنأوا شوقي بأمارته حبا للشهرة وطمعا في احراز منصب فقد كتب عنهم الشاعر حامد جودة في جريدة الاتحاد المصرية في 17/5/1927 ما نصه (بما ان شوقي كان غير مجيد في ربيعيته التي قرئت يوم احتفاله وحافظ كان متكلفا مسفا في عينية والمطران كان مكثرا مملا في همزيته) ثم ينشر ابياتا له تهكمية يعيب بها الشاعر شبلي الملاط اسرافه في تمجيد شوقي ورغم كل هذا التكريم- غير المستحق - من الشعراء لشوقي الا انه يرد عليهم (بالجميل) ولا ينسى ما قدموه له فيقول :
هذا ولي عهدي وقيم الشعر بعدي
فكل من قال شعرا في الناس عبدا لعبدي
وبقي مطمع لقب امير الشعراء يراود اخيلة الكثير منهم رغم اطلاق لقب شاعر العرب الاكبر على اكثرمن واحد وكانت هناك مبايعات لشعراء بالامارة ولكنها كانت فردية وغير رسمية منها قول الرصافي للجواهري:
اقول لرب الشعر مهدي الجواهري الى كم تناغي بالقوافي السواحر
حتى جاء عام 1916 عندما بويع بالامارة الشاعر اللبناني بشارة الخوري (الاخطل الصغير) في احتفال كبير غص بالمدعوين من الادباء والشعراء من البلاد العربية وفي نهاية المهرجان اعلن شعراء العرب مبايعتهم الاخطل الصغير بأمارة الشعر ونشر في بيروت غداة المهرجان (بعد اليوم لن يقال الاخطل الصغير بل سيقال امير الشعراء الاخطل الصغير) لكن هذا اللقب لم يلازم الاخطل الصغير كما لازم شوقي فقد انتفض المصريون وثاروا لعرقهم وممن وقف بوجه امارة الاخطل الشاعر عزيز اباظة (ليس للشعر امارة) والشاعر علي الجندي (ابغض الالقاب الى نفسي) والشاعر حسن كامل (لانرضى بالعبودية) والشاعرمحمد عبد الغني حسن (لكل طير نغمة) والشاعر محمد التهامي (انها كلمة مجاملة لاغير) والشاعرعامر بحيري (في القمة اكثر من شاعر) وغيرها من الاقوال.
إن المصريين يعرفون اكثر من غيرهم أن بشارة ليس باقل من شوقي في شاعريته إن لم يكن اكثر جودة منه فإذا كانت هذه الامارة لا تليق بنظرهم لبشارة فأنها لا تليق ايضا لشوقي .
* كتبه : السياف
..
أول من استحدث فكرة ( إمارة الشعر ) في تاريخ الادب العربي هو الشاعر احمد شوقي عندما عقد له المصريون احتفالا في القاهرة عام 1927 م بدار الاوبرا الملكية برعاية الملك فؤاد , ملك مصر آنذاك وقدموا له الهدايا بهذه المناسبة وتوّجوه بلقب (امير الشعراء) ولايزال ذلك اليوم مشهودا في تاريخنا الادبي , ولكن ذلك الباب الذي انفتح على مصراعيه لأحمد شوقي والذي لم يفتح لأحد قبله ولا بعده لاي شاعر اثار كثيرا من الجدل العنيف الذي احتدم بين مجموعة كبيرة من الأدباء والشعراء حول امارة الشعر في الادب العربي , وقبل الولوج في خضم هذا الجدل لابد من القاء نظرة مختصرة حول تاريح الشعر العربي لمعرفة مدى صحة هذه الفكرة.
لم يعرف تاريخنا الادبي هذه اللفظة (إمارة الشعر) في كل العصور التي عايشها ولم يطلقها القدامى على شاعر ما وكان الاجدر ان تكون في العصر الجاهلي عندما كان الادب العربي يعيش عصره الذهبي الذي عرف بتشجيعه للشعر اكثر من اي وقت مضى كما عرف بالاسواق الادبية التي كانت تعقد للمباريات الشعرية فتحضره الوفود العربية من قبائل الجزيرة لإلقاء نتاجها والتفاخر به وقد اشتهرت في تلك الفترة الكثير من الاسواق الادبية كسوق( مجنة) في مكة و(ذي المجاز) خلف عرفات و(المربد) في البصرة و(الكناسة) في الكوفة و(دومة الجندل) و(هجر) وكان اهمها واشهرها سوق (عكاظ) الذي يقول عنه الاستاذ محمد لطفي جمعة في كتابه (الشهاب الراصد ص144-145) وفي ذلك المجمع (سوق عكاظ) كانوا يسمعون لغات القبائل ولهجاتها فما استحسنوه من تلك اللهجات تكلموا به وما لم يستحسنوه هجروه واسقطوه فصارت لهجتهم افصح اللهجات وخلت لهجتهم من مستبشع اللهجات ومستقبح الالفاظ والعيوب.
في تلك الفترة الذهبية للشعر التي عجت بفحول الشعراء لم يؤمر للشعر امير رغم وجود من يستحق هذه الإمارة وبكل جدارة , فلو كانت هذه الفكرة مستحسنة لدى الشعراء لامروا عليهم الامير الفارس امرأ القيس الذي (امتاز بإجماع علماء الشرق والغرب بالابداع وقوة الخيال واذا جاز لمجازف ان شك في احد من الشعراء فأمرؤ القيس آخر من يشك فيه لانه من شعراء الدنيا القلائل الذين ابتدعوا فأبدعوا واختطوا خطة سار عليها من خلفه قصدا او مقلدا) كما في نفس المصدر السابق (ص293) وقد اشار سيد البلغاء والمتكلمين الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام الى هذا المعنى كما في (نهج البلاغة ج4 ص203) بقوله عليه السلام عندما سئل من اشعر الشعراء ؟ فقال(علي ) ((ان القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها فان كان ولابد فالملك الضليل))- (يريد امرأ القيس).
وتلت تلك الفترة فترات بلغ فيها الشعر أوجَه وقمته واحتل منزلة رفيعة خصوصا في الشعر العباسي وكان الشعراء يعدون بالعشرات كلهم نابغة وقد فاق الشعراء في هذه الفترة المتنبي الذي ملأ الدنيا وشعل الناس ولكن لم يطلق عليه اُحد من الشعراء او المؤلفين لقب امير الشعراء .
والآن بعد ان عرفنا ان فكرة امارة الشعر مستحدثة او بالاحرى مبتدعة لابد من الاشارة على انها جاءت في زمان تلاشت فيه البلاغة اوكادت وابتدعت الوان من الادب المبتذل حيث يصف الاستاذ الاديب فؤاد جرداق أدب تلك الفترة فيقول : (لقد اتخمت مكتبة العرب بالترهات والاراجيف مما انتجه وينتجه بعض المتطفلين على مغاني هذه اللغة الشريفة , اقول والحق يشهد ان خزانة الادب العربي قد تقيأت هذه النفايات لهي بحاجة ماسة الى من يبعث فيها الحياة الطاهرة بمؤلفاتهم القيمة ومصنفاتهم الرائعة الباهرة ), فهل كان شوقي هو من بعث في الادب تلك الروح الطاهرة حتى يتوج بهذا اللقب ؟ ولسنا هنا بصدد نقد شعر شوقي فأن ذلك يحتاج الى دراسة طويلة ولكننا ننوه الى ان الكثير من الادباء والشعراء الكبار كانت لهم مؤاخذات على شعر احمد شوقي منهم الكاظمي وميخائيل نعيمة والعقاد والمازني والاخيران كانا بصدد اصدار رسالة لهما اسمها (الديوان) فيها ما يحتوي شعر شوقي من نقاط الضعف التي تعد مآخذ واضحة عليه ويقول مصطفى صادق الرافعي في( رسائله ص71) ((ان شوقي عرض عليهما 200 جنيها ليكفا عن نشرها فلم يقبلا وامر هذه الرسالة شائع في مصر )! ويبدو ان الاديب داود بركات هو اول من اطلق اللقب على احمد شوقي كما في كتاب (ذكر الشاعرين) جمع وترتيب احمد عبيد ص366 عندما يقول (اما السبب الذي دعاني الى تلقيب احمد شوقي بأمير الشعراء هو ان الخديوي عباسا كان يهمل شوقي) ثم يقول من كلام طويل مامعناه ان الخديوي بحاجة الى توظيف شوقي في الخارجية لما بينه وبين الانكليز من المواجهة (فتأييدا لذلك وضع شوقي في مكانه من الادب , وامارة الشعر الى ان قربه الخديوي واناط به كثيرا من المهام فقام بها خير قيام فاولاه ثقته وقدمه على جميع رجاله) حتى يقول (واخذ يتقلب في نعيم المال والترف والبذخ) ولم ينس شوقي وإيلاء نعمته في مدحهم والاطراء عليهم فـ(ظهرت له في الخديوي توفيق - والد عباس - تلك الامداح التي سارت بها الركبان)كما في نفس المصدر من مقال لاحمد زكي ص328 ومما قاله فيهم :
الملك فيكم آل اسماعيلا لازال بيتكم يظلُّ النيلا
اخوان اسماعيل في ابنائه ولقد ولدت بباب اسماعيلا
وكان لاتصاله بالقصور وتفانيه في طلب رضا ساكنيها هو ما دفع حافظ ابراهيم لأن يتفانى خلال ثلاثين سنة بكيل المدح لشوقي في قصائد يخصه بها خوفا من مقام شوقي ومكانته في القصر وبين الاعيان وتزلفا لعله يحظى بمثل ما حظي به شوقي فكان من اشد المتحمسين لهذه الفكرة وقد القى في ذلك الاحتفال قصيدته العينية التي مطلعها :
بلابل وادي النيل بالمشرق اسجعي بشعر امير الدولتين ورجّعي
ويقول فيها :
أمير القوافي قد اتيت مبايعا وهذي وفود الشعر قد بايعت معي
وقد عرف هذا الشاعر بشدة تعصبه لاقليميته , فقد روى مصطفى صادق الرافعي انه – اي الرافعي - نشر مقالا يشيد بشاعرية الكاظمي فغضب لذلك حافظ غضبا شديدا وانفجر بوجه الرافعي وقال:(ان الذي يغيظني ان يأتي كاتب المقال بشاعر من غير مصر فيضعه على رؤوسنا نحن المصريين) ثم يقول الرافعي (وكان تعنت حافظ على الكاظمي لانه غير مصري )وقد ذكرت هذه القصة مفصلة في كتاب (شاعر العرب ص41) للاستاذ عبد الرحيم محمد علي .
اذن لقد كان تنصيب احمد شوقي لامارة الشعر لاسباب سياسية واصبحت المنزلة العليا والكلمة المسموعة والحكم المطلق لمن يملك الصدارة من القصر ضاربا الادب جانبا ومتحديا الواقع والافضلية كما يقول العقاد في كتاب (الديوان ج1 ص6) ((ومن اعتادوا ان يرتبوا المواهب على حسب الوظائف والالقاب فمن هؤلاء من كنت تسأله ترتيب الشعراء فيقول لك اولهم فلان لانه باشا وثانيهم فلان لانه بك وثالثهم فلان لانه حامل نيشان , فطائفة الافندية والمشايخ وهلم جرا كأنما يرتبونهم في ديوان التشريفات لا في ديوان الادب )) ويقول الشاعر محمد الاسمر (اما نحن فقد نشأنا في مصر بين جو من الالقاب الشعرية فهذا شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية او امير الشعراء وهذا شاعر القطرين او شاعر الاقطار العربية وهذا شاعر النيل واكبر الظن ان الذي دعا الى هذه الالقاب هو ان شوقي كان شاعر الخديوي الذي كان يحكم مصر , فليكن شوقي لاجل ذلك امير الشعراء او خديوي الشعراء ومادام شوقي يلقب بلقب فلابد لخليل مطران ان يلقب بلقب فليكن شاعر القطرين ثم ليكن بعد ذلك شاعر الاقطار العربية بقي حافظ ,ايتركه الذين يكرهون الخديوي بدون لقب فليكن شاعر النيل).
ومن المعارضين لهذه الفكرة ايضا الشاعر الكبير احمد رامي الذي يقول (وفكرة الامارة هذه مستحدثة لم نر لها مثيلا في العربية وكل ما وصل الينا في هذا الخصوص هو ان النابغة الذبياني كان يحكم بين الشعراء فيميز بين الغث من السمين والتكريم يكون لوفرة الانتاج وعلى ذلك فأمارة الشعر تتعارض في نظري مع الفن السليم) وهناك معارضون آخرون منهم مارون عبود الذي وصفها – اي امارة الشعر- (سخافة بلقاء) واحمد الزين (الشعر فن ليس له امير) وعلي محمود طه (لامعنى لهذه الامارة وليس هناك صلة بين الامارة ورسالة الفن) وبقي الجدل محتدما فقد فتح الباب ولايمكن اغلاقه بسهولة فجاء الدكتور طه حسين ليعترف بأن امارة الشعر العربي انتقلت الى العراق بعد وفاة احمد شوقي وقد ظل الدكتور يتألم لهذا الانتقال حتى اخذ يتحدث عنه كثيرا في مقالاته وقد عين في وقتها للامارة الشاعرين الزهاوي والرصافي مما حدا بالشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ان يرسل اضبارة من شعره الى الدكتور طه حسين ويقول له:(لو كنت قرأت هذا الشعر لما وجهت الزعامة الى غير هذا الشاعر) وقد ساء السوريين في وقتها رأي الدكتور في انتقال الامارة الى العراق فقالوا(ما للدكتور يرسل الزعامة الى العراق في طيارة وكان يكفيه ان يرسلها الى صاحبها مطران في سيارة) وقد تأثر الزهاوي من مبايعة الشعراء لشوقي بإمارة الشعر كثيرا فقال وهو في مقهى امين ببغداد:
قالوا لشاعر مصر دار الامارة تبنى
فقلت يا اهل مصر منكم امير ومنا
فكل يشعر ان حقه قد اغتصب وانه ظلم في امارة شوقي عليه وكل يشعر ان شوقي ليس بأفضل منه ان لم يكن دونه فقال الشاعر الكبير محمد الهراوي في استنكار وانفة :(انه بايع الشاعرين مبايعة علي للشيخين) وقد عاب الكثير تطرف المتزلفين الذين هنأوا شوقي بأمارته حبا للشهرة وطمعا في احراز منصب فقد كتب عنهم الشاعر حامد جودة في جريدة الاتحاد المصرية في 17/5/1927 ما نصه (بما ان شوقي كان غير مجيد في ربيعيته التي قرئت يوم احتفاله وحافظ كان متكلفا مسفا في عينية والمطران كان مكثرا مملا في همزيته) ثم ينشر ابياتا له تهكمية يعيب بها الشاعر شبلي الملاط اسرافه في تمجيد شوقي ورغم كل هذا التكريم- غير المستحق - من الشعراء لشوقي الا انه يرد عليهم (بالجميل) ولا ينسى ما قدموه له فيقول :
هذا ولي عهدي وقيم الشعر بعدي
فكل من قال شعرا في الناس عبدا لعبدي
وبقي مطمع لقب امير الشعراء يراود اخيلة الكثير منهم رغم اطلاق لقب شاعر العرب الاكبر على اكثرمن واحد وكانت هناك مبايعات لشعراء بالامارة ولكنها كانت فردية وغير رسمية منها قول الرصافي للجواهري:
اقول لرب الشعر مهدي الجواهري الى كم تناغي بالقوافي السواحر
حتى جاء عام 1916 عندما بويع بالامارة الشاعر اللبناني بشارة الخوري (الاخطل الصغير) في احتفال كبير غص بالمدعوين من الادباء والشعراء من البلاد العربية وفي نهاية المهرجان اعلن شعراء العرب مبايعتهم الاخطل الصغير بأمارة الشعر ونشر في بيروت غداة المهرجان (بعد اليوم لن يقال الاخطل الصغير بل سيقال امير الشعراء الاخطل الصغير) لكن هذا اللقب لم يلازم الاخطل الصغير كما لازم شوقي فقد انتفض المصريون وثاروا لعرقهم وممن وقف بوجه امارة الاخطل الشاعر عزيز اباظة (ليس للشعر امارة) والشاعر علي الجندي (ابغض الالقاب الى نفسي) والشاعر حسن كامل (لانرضى بالعبودية) والشاعرمحمد عبد الغني حسن (لكل طير نغمة) والشاعر محمد التهامي (انها كلمة مجاملة لاغير) والشاعرعامر بحيري (في القمة اكثر من شاعر) وغيرها من الاقوال.
إن المصريين يعرفون اكثر من غيرهم أن بشارة ليس باقل من شوقي في شاعريته إن لم يكن اكثر جودة منه فإذا كانت هذه الامارة لا تليق بنظرهم لبشارة فأنها لا تليق ايضا لشوقي .
* كتبه : السياف