مالك الحزين
16-08-2017, 01:51 PM
السلام عليكم
وأنا أبحث في ملفاتي وجدت مجلدا لمواضيع كتبتها قديما في هذا المنتدى ، فاختر لكم هذا الموضوع الشيق والذي أذكر جيدا كم أتعبتني كتابته وكنت قد عنونته بــ " عندما نـُعمل عقولنا بطريقة خاطئة ( المعتزلة بين ابن حنبل والهمذاني ) "، أرجو أن يعجبكم .
هنالك مفهوم خاطئ عند الكثيرين بأن أهل السنة والجماعة يعطلون العقل بالمطلق ، وهذا افتراء كبير على من نقل لنا السنة ، فمن يتدبر كتاباتهم ومناظراتهم تجدهم أكثر من يعمل العقل في سبيل ليس إثبات الحديث أو الحكم فقط ، ولكن لإثبات خطأ المعتقد عند المخالف ، وخير مثال لذلك مناظرات أبي حنيفة والشافعي .
وهنالك أمثلة كثيرة أخرى من أشهرها مناظرات أهل السنة مع فرقة المعتزلة الضالة ، وأشهر من ناظرهم وفند آراءهم الإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية ، حيث كانت ردودهم سياط تنزل على ظهور المعتزلة ، ورغم ذلك فقد عاند كبراؤهم في الباطل مثلما عاند فرعون موسى معجزات الله تعالى ، واستخف قومه مع كل تلك الدلائل على صدق موسى وقال : ما علمت لكم من إله غيري .
هذه الفرقة الضالة نشرت سمومها في إحدى فترات الدولة الإسلامية واستخفت عقول البعض بتزوير الكلام والإيهام بان دوافع فكرتهم تنزيه الخالق عن النقص ، وهم لعَمري أساؤوا للذات الإلهية أكثر مما نزهوا ، وكذبوا أكثر مما صدقوا ، وخدعوا الناس بألفاظ يظنها المستمع حقا وهي عين الباطل .
يقوم معتقد المعتزلة على نفي الصفات عن الله عز وجل ، وأنا لا أريد أن أسهب في هذا البحث حول أفكارهم حتى لا تختلط الأمور على البعض ، ولكنني سأحاول تبسيط الفكرة والاختصار ، فمثلا لو قلت لهم إن لله علما وقدرة أو إن لله يد وساق وغيرها من الصفات الثابتة في القرآن والسنة ، وهي صفات تليق بالله نعرف معناها ولا نعلم كيف هي ، إذا قلنا لهم هذا أنكروها بحجة أن الله واحد ، وقد توهموا أن الصفة منفصلة عن الموصوف ، واتهموا أهل السنة بأنهم عددوا مع الله وخالفوا التوحيد ، وهذا خطأ كبير .
فلو قلنا لهم : جاء أحمد الكريم ، فنحن أثبتنا مجيء شخص واحد وهو أحمد ، لأن الصفة ملازمة للموصوف لا تنفصل عنه ، فلا نقول جاء أحمد وجاء الكريم ، ومن غير المعقول أيضا أن نقول جاء أحمد ويده ورجله وبصره ، فالذي جاء شخص واحد وما ذكرناه من البصر واليد هي صفات لأحمد . وكذلك لله المثل الأعلى ، فلو قلنا إن لله يد فهي أحدى صفات الرحمن لا تنفصل عن ذاته المقدسة ، لأن الله تعالى له صفات كثيرة .
ولأن المعتزلة في زمانهم يشبهون كثيرا الليبراليين في طريقة التفكير فقد اعملوا عقولهم في أشياء ما تطرق لها رسول الله ولا بحث عنها الصحابة الكرام ، ووقعوا في مقالة الكفر من حيث يدرون أو لا يدرون ، ولا أقول وقعوا في الكفر ، لأن أهل السنة يفرقون بين قول الكفر والاعتقاد به .
منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وجميع المسلمين يقولون بأن القرآن كلام الله ، ولا جدال في هذا حتى أتى المعتزلة وقالوا : لا ، القرآن مخلوق ، ولبّسوا على الناس بأقوال كثيرة منها أنه هنالك خالق ومخلوق ، فإن كان القرآن غير مخلوق إذن فهو خالق وهذا باطل .
والباطل عقولهم التي أوصلتهم إلى هذه النتيجة ، فالجواب علي هذه الفكرة يكون بأن صفات الله تعالى لا تنفصل عنه ، ولم تكن في زمن منفصلة عنه لأنه هو المتحلي بصفات الكمال والجلال منذ الأزل ، والكلام من صفات الله تعالى ، والقرآن كلام الله ، ومن علمه ، فكيف يكون مخلوقا !
كلام فلسفي ما أريد به إلا التلبيس على الناس دينهم ، غير أن الله تعالى قيض للأمة من العلماء من يردون على هؤلاء المبتدعة هذا الرأي ، ومنهم الإمام ابن حنبل .
قال أحمد بن حنبل في معرض الحديث عنهم :
" ليس شيء أشد عليهم مما أدخلت عليهم حين ناظروني ، قلت لهم : علم الله مخلوق ؟ قالوا : لا . قلت : فإن علم الله هو القرآن . قال الله عز وجل : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ) وقال : ( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) هذا في القرآن في غير موضع من العلم . "
ومن الأدلة الواهية على هذا القول الفاسد عندهم تمسكهم بهذه الآية :
( الله خالق كل شيء )
والقرآن شيء ، إذن فهو مخلوق ، وهو داخل في عموم الآية .
وقد رد عليهم ابن حنبل حينما قال المعتزلة للمعتصم :
" يا أمير المؤمنين سله عن القرآن ، أشيء هو أو غير شيء ؟
قال ابن حنبل : فقال لي المعتصم : يا أحمد أجبهم .
فقلت له : يا أمير المؤمنين إن هؤلاء لا علم لهم بالقرآن ، ولا بالناسخ والمنسوخ ، ولا بالعام والخاص ، قد قال الله عز وجل في قصة موسى ( وكتبنا له في الألواح من كل شيء ) فما كتب له القرآن ، وقال في قصة سبأ ( وأوتيت من كل شيء ) وما أوتيت القرآن . "
يريد أن يقول بأنه في الخطاب الخاص كلمة ( كل شيء ) لا تعني كل شيء على العموم ، بل تعني ما يدخل في سياق تلك الجملة ، لأن الله _ كما قال _ كتب لموسى في الألواح من كل شيء ، ومع ذلك فالقرآن شيء ولم يُكتب في الألواح ، وقد تطرق العلماء إلى هذه المسألة كثيرا ، يقول ابن تيمية ردا على هذه الشبهة :
" وعموم ( كل ) في كل موضع بحسبه ، ويعرف ذلك بالقرائن . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) ، ومساكنهم شيء ، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح ، وذلك لأن المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير ، وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس : ( وأوتيت من كل شيء ) ، المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك ، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام . إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك ، غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها ، ولهذا نظائر كثيرة .
والمراد من قوله تعالى : ( خالق كل شيء ) ، أي : كل شيء مخلوق ، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق ، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتما ، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى ، وصفاته ليست غيره ، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال ، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة ، لا يتصور انفصال صفاته عنه ، كما تقدم الإشارة إلى هذا المعنى عند قوله : ( ما زال قديما بصفاته قبل خلقه ) . بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم . فإذا كان قوله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) مخلوقا ، لا يصح أن يكون دليلا ..... " .
وقد رد الإمام عبد العزيز بن يحيى _ وسيأتي ذكره بعد قليل _ في حضرة
المأمون على بشر المريسي وهو من زعماء المعتزلة على هذه الشبهة فقال :
" يا بشر ألست تزعم أن قوله: ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) لفظه لا يخرج عنها شيء ، لأن ( كل ) كلمة تجمع الأشياء فلا تدع شيئاً يخرج عنها وكل شيء داخل فيها ؟ فقال بشر: هكذا قلت وهكذا أقول، وهكذا هو عند الخلق ولست أرجع عنه بكثرة خطبك وهذيانك، فقلت: أمير المؤمنين شاهد عليك بهذا .
ثم قلت له: يا بشر قال الله عز وجل ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) وقال عز وجل: ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَه ) وقال جل ذكره: ( كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) وقال عز وجل: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ ) وقال: ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) فقد أخبر الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه أن له نفسا، أفتقر يا بشر أن لله نفسا كما أخبرنا عنها بهذه الأخبار كلها، قال: نعم .
قال عبد العزيز : قال الله عز وجل: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ) أفتقول أن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس التي تذوق الموت ، فصاح المأمون بأعلى صوته وكان جهير الصوت ، معاذ الله معاذ الله معاذ الله ، فقلت ورفعت صوتي : إذاً معاذ الله معاذ الله أن يكون كلام الله داخلا في الأشياء المخلوقة ، كما إن نفسه ليست بداخله في الأنفس الميتة، وكلامه خارج عن الأشياء المخلوقة كما إن نفسه خارجة عن الأنفس الميتة . "
وفي نفس المناظرة استند بشر المريسي على هذه الآية :
( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) والتي أولَها بأنها تفيد الخلق ،
فكان رد الإمام عبد العزيز عليه كالتالي كما يحكي هو عن نفسه :
" قال عبد العزيز: فأقبلت على بشر فقلت: أخبرني عن ( جعل ) هذا حرف محكم لا يحتمل غير الخلق ؟
فقال بشر: نعم هو حرف محكم لا يحتمل معنى غير الخلق وما بين جعل وخلق فرق .
قال عبد العزيز: أخبرني بإجماع الخلق بزعمك على أن جعل وخلق واحد لا فرق بينهما في هذا الحرف وحده أو في سائر القرآن من الجعل ؟
قال: بل في سائر القرآن من ذلك وفي سائر الكلام والأخبار والأشعار .
قال عبد العزيز: فقلت: قال الله عز وجل: ( وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ) وقد خلقتم الله عليكم كفيلا، لا معنى لذلك عنده غيره، وإنه ومن قال بقوله ومن خالفه وسائر العرب والعجم يقولون هذا .
وقال عز وجل: ( وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ ) ولا تخلقوا الله عرضة لأيمانكم ، لا معنى له عنده ولا عند من قال بقوله، ومن خالفه وسائر الخلق جميعاً غير هذا أن الله قال لبني آدم، ولا تخلقوا الله .
فقال المأمون: ما أقبح هذا وأشنعه وأعظم القول به. فقلت: قال الله سبحانه: ( وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ) فزعم بشر يا أمير المؤمنين إن بني آدم يخلقون لله البنات، ويخبر بذلك عن الله عز وجل وإنه هو قاله وشهد به على نفسه ..... " .
وتمسك المعتزلة أيضا بهذه الآية ليثبتوا أن القرآن مخلوق ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) ، والشيء المحدث لا بد أن يكون مخلوقا ، وكان رد ابن حنبل عليهم من القرآن نفسه كالتالي :
قال ابن حنبل :
" قال لي بعضهم : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) أفيكون محدث إلا مخلوقا ؟ قال : فقلت لهم : قال الله عز وجل ( ص والقرآن ذي الذكر ) ، فالذكر هو القرآن ، وتلك ليس فيها ألف ولا لام .
يقصد أن كلمة ( ذكر) الأولى غير معرفة وجاءت نكرة .
ويقول في قصة أخرى :
" واحتجوا علي : ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم من آية الكرسي ،
فقلت له : إنه لم يجعل آية الكرسي مخلوقة ، إنما هذا مثل ضربه ، أي : هي أعظم من أن تخلق ، ولو كانت مخلوقة لكانت السماء أعظم منها ، أي : فليست بمخلوقة ، قال : واحتجوا علي بقوله : ( الله خالق كل شيء ) ، فقلت : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) ، فخلق من القرآن زوجين ؟!( وأوتيت من كل شيء ) فأوتيت القرآن ؟! فأوتيت النبوة أوتيت كذا وكذا ؟! وقال الله تعالى ( تدمر كل شيء ) ، فدمرت كل شيء ، إنما دمرت ما أراد الله من شيء .
قال : وقال لي ابن أبي دؤاد :
أين تجد أن القرآن كلام الله ؟
قلت : ( اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ) فسكت . "
كل هذه المناظرات بين أحمد بن حنبل وخصومه جرت في زمن المعتصم الذي قال عنه كثير من المؤرخين بأنه لم يكن صاحب علم ، ولكنه كان قائدا محنكا وفارسا ومقاتلا ، وقد أخطأ حينما تبنى فكر المعتزلة مثل سالفه المأمون ، ورغم أن فترة خلافته كانت حافلة للمسلمين ، إلا أنه لم ينغصها إلا أمره بضرب الإمام ابن حنبل بين يديه وجلده وحتى قيل بأنه ضربه بنفسه .
وقد حصلت مناظرة بين بشر المريسي المتوفى سنة 218 وهو من كبار المعتزلة في زمن المأمون وبين أبي الحسن عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز الكناني الذي مر ذكره قبل قليل والمتوفى سنة 240 ، وهو من علماء الحجاز ، جاء من مكة إلى بغداد بعد أن أقض مضجعه مقالة المعتزلة بخلق القرآن ، وكان لا يجرؤ أحد في بغداد أن يجهر بمخالفة معتقد المعتزلة حتى جاء من مكة ، وصلى في جامع بغداد ، وبعد أن سلم الإمام وقف على الفور ونادى ابنه وقال : ما تقول في القرآن ، وكان قد اتفق مع ابنه على هذا ، فقال ابنه : كلام الله غير مخلوق .
فأخذه رجال الشرطة ونقلوه للسجن حيث طلب المناظرة مع المعتزلة فأذن له المأمون .
وقد ذكر هذا العالم نفسُه هذه المناظرة بالتفصيل في كتابه ( الحيدة ) وهي في المرفقات ، أنصح الجميع بقراءتها والتمعن في معانيها ، وكيف كانت وقفة العالم الشجاع أمام خصومه ومنهم الخليفة العباسي نفسه .
يقول الإمام عبد العزيز في كتابه إنه ناظرهم على أن يكون المرجع كتاب الله وسنة نبيه ، فوافقوه ، فلما غلبهم طلبوا المناظرة على تأويل الآيات فغلبهم ثم بالنظر ثم بالقياس ولم يقدروا عليه ، وقد جاء ذكر بعض المناظرات قبل قليل .
يقول الامام عبد العزيز بعدما ناظر بشرا المريسي في كل شيء مخاطبا الخليفة المأمون :
" فقد كسرت قوله بالقرآن والسنة واللغة العربية، والنظر والمعقول، ولم يبق إلا القياس، وأنا أكسره بالقياس إن شاء الله تعالى .
قال عبد العزيز: وكان المأمون قد جلس منا مقعد الحاكم من الخصمين. فقال: هاته يا عبد العزيز وأوجز، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو كان لبشر ( يقصد بشر المريسي ) غلامان ، وأنا لا أجد علمهما من أحد من الناس إلا من بـِشر ، يقال لأحدهما خالد ، وللآخر يزيد ، وكان بشر غائبا عني فكتب إلي ثمانية عشر كتابا يقول في كل كتاب منها : أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب .
وكتب إلي أربعة وخمسين كتابا يقول في كل كتاب : أدفع إلى يزيد ، ولم يقل: يزيد غلامي ، هذا الكتاب، ثم كتب إلي كتابا جمعهما فيه فقال : أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب، وإلى يزيد ولم يقل، يزيد غلامي.
ثم قدم بشر من سفره، فقال: أليس تعلم أن يزيد هذا غلامي ؟ فقلت له : قد كتبت إلي أربعة وخمسين كتابا تقول في كل كتاب منها أدفع هذا الكتاب إلى يزيد ولم تقل غلامي، ولم أسمعك تقول إنه أحد غلاميك، وأنا لا أجد علمه عن أحد غيرك .
وكتبت إلي ثمانية عشر كتابا ( تقول في كل واحد منها ) أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب فعلمت إنه غلامك ، ثم كتبت إلي كتابا جمعتهما فيه فقلت : أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب ، وإلى يزيد ولم تقل غلامي ، فمن أين أعلم أن يزيدا غلامك وأنت لم تقل لي قبل هذا الوقت إنه غلامك وليس أعلم خبرهما من غيرك .
فقال بشر فرّطت ، فحلفت أنا إن بشرا فرّط ، وحلف بشر إني أنا فرّطت حيث لم أعلم إن يزيدا غلامه من كتبه ، فأينا المفرّط يا أمير المؤمنين . فقال: بشر المفرّط .
فقال بشر : أي شي هذا مما نحن فيه .
قال عبد العزيز: إن الله أخبر في كتابه عن خلق الإنسان في ثمانية عشر موضعا، ما ذكره في موضع منها إلا أخبر عن خلقه .
وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا من كتابه فلم يخبر عن خلقه في موضع منها ولا أشار إليه بشي من صفات الخلق ، ثم جمع بين القرآن والإنسان في موضع واحد وأخبر عن خلق الإنسان ، ونفى الخلق عن القرآن . فقال عز وجل: ( الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ ) ففرق بين القرآن وبين الإنسان ، فزعم بشر يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل فرّط في الكتاب، وكان يجب عليه أن يخبر عن خلق القرآن ، وقال الله عز وجل ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) فهذا كسر قول بشر في القياس والحمد لله رب العالمين " .
يُتبع ,,,
وأنا أبحث في ملفاتي وجدت مجلدا لمواضيع كتبتها قديما في هذا المنتدى ، فاختر لكم هذا الموضوع الشيق والذي أذكر جيدا كم أتعبتني كتابته وكنت قد عنونته بــ " عندما نـُعمل عقولنا بطريقة خاطئة ( المعتزلة بين ابن حنبل والهمذاني ) "، أرجو أن يعجبكم .
هنالك مفهوم خاطئ عند الكثيرين بأن أهل السنة والجماعة يعطلون العقل بالمطلق ، وهذا افتراء كبير على من نقل لنا السنة ، فمن يتدبر كتاباتهم ومناظراتهم تجدهم أكثر من يعمل العقل في سبيل ليس إثبات الحديث أو الحكم فقط ، ولكن لإثبات خطأ المعتقد عند المخالف ، وخير مثال لذلك مناظرات أبي حنيفة والشافعي .
وهنالك أمثلة كثيرة أخرى من أشهرها مناظرات أهل السنة مع فرقة المعتزلة الضالة ، وأشهر من ناظرهم وفند آراءهم الإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية ، حيث كانت ردودهم سياط تنزل على ظهور المعتزلة ، ورغم ذلك فقد عاند كبراؤهم في الباطل مثلما عاند فرعون موسى معجزات الله تعالى ، واستخف قومه مع كل تلك الدلائل على صدق موسى وقال : ما علمت لكم من إله غيري .
هذه الفرقة الضالة نشرت سمومها في إحدى فترات الدولة الإسلامية واستخفت عقول البعض بتزوير الكلام والإيهام بان دوافع فكرتهم تنزيه الخالق عن النقص ، وهم لعَمري أساؤوا للذات الإلهية أكثر مما نزهوا ، وكذبوا أكثر مما صدقوا ، وخدعوا الناس بألفاظ يظنها المستمع حقا وهي عين الباطل .
يقوم معتقد المعتزلة على نفي الصفات عن الله عز وجل ، وأنا لا أريد أن أسهب في هذا البحث حول أفكارهم حتى لا تختلط الأمور على البعض ، ولكنني سأحاول تبسيط الفكرة والاختصار ، فمثلا لو قلت لهم إن لله علما وقدرة أو إن لله يد وساق وغيرها من الصفات الثابتة في القرآن والسنة ، وهي صفات تليق بالله نعرف معناها ولا نعلم كيف هي ، إذا قلنا لهم هذا أنكروها بحجة أن الله واحد ، وقد توهموا أن الصفة منفصلة عن الموصوف ، واتهموا أهل السنة بأنهم عددوا مع الله وخالفوا التوحيد ، وهذا خطأ كبير .
فلو قلنا لهم : جاء أحمد الكريم ، فنحن أثبتنا مجيء شخص واحد وهو أحمد ، لأن الصفة ملازمة للموصوف لا تنفصل عنه ، فلا نقول جاء أحمد وجاء الكريم ، ومن غير المعقول أيضا أن نقول جاء أحمد ويده ورجله وبصره ، فالذي جاء شخص واحد وما ذكرناه من البصر واليد هي صفات لأحمد . وكذلك لله المثل الأعلى ، فلو قلنا إن لله يد فهي أحدى صفات الرحمن لا تنفصل عن ذاته المقدسة ، لأن الله تعالى له صفات كثيرة .
ولأن المعتزلة في زمانهم يشبهون كثيرا الليبراليين في طريقة التفكير فقد اعملوا عقولهم في أشياء ما تطرق لها رسول الله ولا بحث عنها الصحابة الكرام ، ووقعوا في مقالة الكفر من حيث يدرون أو لا يدرون ، ولا أقول وقعوا في الكفر ، لأن أهل السنة يفرقون بين قول الكفر والاعتقاد به .
منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وجميع المسلمين يقولون بأن القرآن كلام الله ، ولا جدال في هذا حتى أتى المعتزلة وقالوا : لا ، القرآن مخلوق ، ولبّسوا على الناس بأقوال كثيرة منها أنه هنالك خالق ومخلوق ، فإن كان القرآن غير مخلوق إذن فهو خالق وهذا باطل .
والباطل عقولهم التي أوصلتهم إلى هذه النتيجة ، فالجواب علي هذه الفكرة يكون بأن صفات الله تعالى لا تنفصل عنه ، ولم تكن في زمن منفصلة عنه لأنه هو المتحلي بصفات الكمال والجلال منذ الأزل ، والكلام من صفات الله تعالى ، والقرآن كلام الله ، ومن علمه ، فكيف يكون مخلوقا !
كلام فلسفي ما أريد به إلا التلبيس على الناس دينهم ، غير أن الله تعالى قيض للأمة من العلماء من يردون على هؤلاء المبتدعة هذا الرأي ، ومنهم الإمام ابن حنبل .
قال أحمد بن حنبل في معرض الحديث عنهم :
" ليس شيء أشد عليهم مما أدخلت عليهم حين ناظروني ، قلت لهم : علم الله مخلوق ؟ قالوا : لا . قلت : فإن علم الله هو القرآن . قال الله عز وجل : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ) وقال : ( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) هذا في القرآن في غير موضع من العلم . "
ومن الأدلة الواهية على هذا القول الفاسد عندهم تمسكهم بهذه الآية :
( الله خالق كل شيء )
والقرآن شيء ، إذن فهو مخلوق ، وهو داخل في عموم الآية .
وقد رد عليهم ابن حنبل حينما قال المعتزلة للمعتصم :
" يا أمير المؤمنين سله عن القرآن ، أشيء هو أو غير شيء ؟
قال ابن حنبل : فقال لي المعتصم : يا أحمد أجبهم .
فقلت له : يا أمير المؤمنين إن هؤلاء لا علم لهم بالقرآن ، ولا بالناسخ والمنسوخ ، ولا بالعام والخاص ، قد قال الله عز وجل في قصة موسى ( وكتبنا له في الألواح من كل شيء ) فما كتب له القرآن ، وقال في قصة سبأ ( وأوتيت من كل شيء ) وما أوتيت القرآن . "
يريد أن يقول بأنه في الخطاب الخاص كلمة ( كل شيء ) لا تعني كل شيء على العموم ، بل تعني ما يدخل في سياق تلك الجملة ، لأن الله _ كما قال _ كتب لموسى في الألواح من كل شيء ، ومع ذلك فالقرآن شيء ولم يُكتب في الألواح ، وقد تطرق العلماء إلى هذه المسألة كثيرا ، يقول ابن تيمية ردا على هذه الشبهة :
" وعموم ( كل ) في كل موضع بحسبه ، ويعرف ذلك بالقرائن . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) ، ومساكنهم شيء ، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح ، وذلك لأن المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير ، وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس : ( وأوتيت من كل شيء ) ، المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك ، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام . إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك ، غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها ، ولهذا نظائر كثيرة .
والمراد من قوله تعالى : ( خالق كل شيء ) ، أي : كل شيء مخلوق ، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق ، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتما ، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى ، وصفاته ليست غيره ، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال ، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة ، لا يتصور انفصال صفاته عنه ، كما تقدم الإشارة إلى هذا المعنى عند قوله : ( ما زال قديما بصفاته قبل خلقه ) . بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم . فإذا كان قوله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) مخلوقا ، لا يصح أن يكون دليلا ..... " .
وقد رد الإمام عبد العزيز بن يحيى _ وسيأتي ذكره بعد قليل _ في حضرة
المأمون على بشر المريسي وهو من زعماء المعتزلة على هذه الشبهة فقال :
" يا بشر ألست تزعم أن قوله: ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) لفظه لا يخرج عنها شيء ، لأن ( كل ) كلمة تجمع الأشياء فلا تدع شيئاً يخرج عنها وكل شيء داخل فيها ؟ فقال بشر: هكذا قلت وهكذا أقول، وهكذا هو عند الخلق ولست أرجع عنه بكثرة خطبك وهذيانك، فقلت: أمير المؤمنين شاهد عليك بهذا .
ثم قلت له: يا بشر قال الله عز وجل ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) وقال عز وجل: ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَه ) وقال جل ذكره: ( كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) وقال عز وجل: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ ) وقال: ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) فقد أخبر الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه أن له نفسا، أفتقر يا بشر أن لله نفسا كما أخبرنا عنها بهذه الأخبار كلها، قال: نعم .
قال عبد العزيز : قال الله عز وجل: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ) أفتقول أن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس التي تذوق الموت ، فصاح المأمون بأعلى صوته وكان جهير الصوت ، معاذ الله معاذ الله معاذ الله ، فقلت ورفعت صوتي : إذاً معاذ الله معاذ الله أن يكون كلام الله داخلا في الأشياء المخلوقة ، كما إن نفسه ليست بداخله في الأنفس الميتة، وكلامه خارج عن الأشياء المخلوقة كما إن نفسه خارجة عن الأنفس الميتة . "
وفي نفس المناظرة استند بشر المريسي على هذه الآية :
( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) والتي أولَها بأنها تفيد الخلق ،
فكان رد الإمام عبد العزيز عليه كالتالي كما يحكي هو عن نفسه :
" قال عبد العزيز: فأقبلت على بشر فقلت: أخبرني عن ( جعل ) هذا حرف محكم لا يحتمل غير الخلق ؟
فقال بشر: نعم هو حرف محكم لا يحتمل معنى غير الخلق وما بين جعل وخلق فرق .
قال عبد العزيز: أخبرني بإجماع الخلق بزعمك على أن جعل وخلق واحد لا فرق بينهما في هذا الحرف وحده أو في سائر القرآن من الجعل ؟
قال: بل في سائر القرآن من ذلك وفي سائر الكلام والأخبار والأشعار .
قال عبد العزيز: فقلت: قال الله عز وجل: ( وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ) وقد خلقتم الله عليكم كفيلا، لا معنى لذلك عنده غيره، وإنه ومن قال بقوله ومن خالفه وسائر العرب والعجم يقولون هذا .
وقال عز وجل: ( وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ ) ولا تخلقوا الله عرضة لأيمانكم ، لا معنى له عنده ولا عند من قال بقوله، ومن خالفه وسائر الخلق جميعاً غير هذا أن الله قال لبني آدم، ولا تخلقوا الله .
فقال المأمون: ما أقبح هذا وأشنعه وأعظم القول به. فقلت: قال الله سبحانه: ( وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ) فزعم بشر يا أمير المؤمنين إن بني آدم يخلقون لله البنات، ويخبر بذلك عن الله عز وجل وإنه هو قاله وشهد به على نفسه ..... " .
وتمسك المعتزلة أيضا بهذه الآية ليثبتوا أن القرآن مخلوق ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) ، والشيء المحدث لا بد أن يكون مخلوقا ، وكان رد ابن حنبل عليهم من القرآن نفسه كالتالي :
قال ابن حنبل :
" قال لي بعضهم : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) أفيكون محدث إلا مخلوقا ؟ قال : فقلت لهم : قال الله عز وجل ( ص والقرآن ذي الذكر ) ، فالذكر هو القرآن ، وتلك ليس فيها ألف ولا لام .
يقصد أن كلمة ( ذكر) الأولى غير معرفة وجاءت نكرة .
ويقول في قصة أخرى :
" واحتجوا علي : ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم من آية الكرسي ،
فقلت له : إنه لم يجعل آية الكرسي مخلوقة ، إنما هذا مثل ضربه ، أي : هي أعظم من أن تخلق ، ولو كانت مخلوقة لكانت السماء أعظم منها ، أي : فليست بمخلوقة ، قال : واحتجوا علي بقوله : ( الله خالق كل شيء ) ، فقلت : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) ، فخلق من القرآن زوجين ؟!( وأوتيت من كل شيء ) فأوتيت القرآن ؟! فأوتيت النبوة أوتيت كذا وكذا ؟! وقال الله تعالى ( تدمر كل شيء ) ، فدمرت كل شيء ، إنما دمرت ما أراد الله من شيء .
قال : وقال لي ابن أبي دؤاد :
أين تجد أن القرآن كلام الله ؟
قلت : ( اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ) فسكت . "
كل هذه المناظرات بين أحمد بن حنبل وخصومه جرت في زمن المعتصم الذي قال عنه كثير من المؤرخين بأنه لم يكن صاحب علم ، ولكنه كان قائدا محنكا وفارسا ومقاتلا ، وقد أخطأ حينما تبنى فكر المعتزلة مثل سالفه المأمون ، ورغم أن فترة خلافته كانت حافلة للمسلمين ، إلا أنه لم ينغصها إلا أمره بضرب الإمام ابن حنبل بين يديه وجلده وحتى قيل بأنه ضربه بنفسه .
وقد حصلت مناظرة بين بشر المريسي المتوفى سنة 218 وهو من كبار المعتزلة في زمن المأمون وبين أبي الحسن عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز الكناني الذي مر ذكره قبل قليل والمتوفى سنة 240 ، وهو من علماء الحجاز ، جاء من مكة إلى بغداد بعد أن أقض مضجعه مقالة المعتزلة بخلق القرآن ، وكان لا يجرؤ أحد في بغداد أن يجهر بمخالفة معتقد المعتزلة حتى جاء من مكة ، وصلى في جامع بغداد ، وبعد أن سلم الإمام وقف على الفور ونادى ابنه وقال : ما تقول في القرآن ، وكان قد اتفق مع ابنه على هذا ، فقال ابنه : كلام الله غير مخلوق .
فأخذه رجال الشرطة ونقلوه للسجن حيث طلب المناظرة مع المعتزلة فأذن له المأمون .
وقد ذكر هذا العالم نفسُه هذه المناظرة بالتفصيل في كتابه ( الحيدة ) وهي في المرفقات ، أنصح الجميع بقراءتها والتمعن في معانيها ، وكيف كانت وقفة العالم الشجاع أمام خصومه ومنهم الخليفة العباسي نفسه .
يقول الإمام عبد العزيز في كتابه إنه ناظرهم على أن يكون المرجع كتاب الله وسنة نبيه ، فوافقوه ، فلما غلبهم طلبوا المناظرة على تأويل الآيات فغلبهم ثم بالنظر ثم بالقياس ولم يقدروا عليه ، وقد جاء ذكر بعض المناظرات قبل قليل .
يقول الامام عبد العزيز بعدما ناظر بشرا المريسي في كل شيء مخاطبا الخليفة المأمون :
" فقد كسرت قوله بالقرآن والسنة واللغة العربية، والنظر والمعقول، ولم يبق إلا القياس، وأنا أكسره بالقياس إن شاء الله تعالى .
قال عبد العزيز: وكان المأمون قد جلس منا مقعد الحاكم من الخصمين. فقال: هاته يا عبد العزيز وأوجز، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو كان لبشر ( يقصد بشر المريسي ) غلامان ، وأنا لا أجد علمهما من أحد من الناس إلا من بـِشر ، يقال لأحدهما خالد ، وللآخر يزيد ، وكان بشر غائبا عني فكتب إلي ثمانية عشر كتابا يقول في كل كتاب منها : أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب .
وكتب إلي أربعة وخمسين كتابا يقول في كل كتاب : أدفع إلى يزيد ، ولم يقل: يزيد غلامي ، هذا الكتاب، ثم كتب إلي كتابا جمعهما فيه فقال : أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب، وإلى يزيد ولم يقل، يزيد غلامي.
ثم قدم بشر من سفره، فقال: أليس تعلم أن يزيد هذا غلامي ؟ فقلت له : قد كتبت إلي أربعة وخمسين كتابا تقول في كل كتاب منها أدفع هذا الكتاب إلى يزيد ولم تقل غلامي، ولم أسمعك تقول إنه أحد غلاميك، وأنا لا أجد علمه عن أحد غيرك .
وكتبت إلي ثمانية عشر كتابا ( تقول في كل واحد منها ) أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب فعلمت إنه غلامك ، ثم كتبت إلي كتابا جمعتهما فيه فقلت : أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب ، وإلى يزيد ولم تقل غلامي ، فمن أين أعلم أن يزيدا غلامك وأنت لم تقل لي قبل هذا الوقت إنه غلامك وليس أعلم خبرهما من غيرك .
فقال بشر فرّطت ، فحلفت أنا إن بشرا فرّط ، وحلف بشر إني أنا فرّطت حيث لم أعلم إن يزيدا غلامه من كتبه ، فأينا المفرّط يا أمير المؤمنين . فقال: بشر المفرّط .
فقال بشر : أي شي هذا مما نحن فيه .
قال عبد العزيز: إن الله أخبر في كتابه عن خلق الإنسان في ثمانية عشر موضعا، ما ذكره في موضع منها إلا أخبر عن خلقه .
وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا من كتابه فلم يخبر عن خلقه في موضع منها ولا أشار إليه بشي من صفات الخلق ، ثم جمع بين القرآن والإنسان في موضع واحد وأخبر عن خلق الإنسان ، ونفى الخلق عن القرآن . فقال عز وجل: ( الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ ) ففرق بين القرآن وبين الإنسان ، فزعم بشر يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل فرّط في الكتاب، وكان يجب عليه أن يخبر عن خلق القرآن ، وقال الله عز وجل ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) فهذا كسر قول بشر في القياس والحمد لله رب العالمين " .
يُتبع ,,,