مالك الحزين
28-11-2015, 08:18 PM
https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/3/39/Joan_of_arc_miniature_graded.j pg/396px-Joan_of_arc_miniature_graded.j pg
لم تحظ فتاة بمكانة متميزة في تاريخ أوربا عامة وتاريخ فرنسا خاصة ، كالتي حظيت بها الفتاة الريفية الفرنسية جان دارك ، ويشهد على ذلك العدد الضخم من المؤلفات التي كتبت عنها ، منذ إعدامها حرقاً في مدينة روان ، بمقاطعة نورمانديا الفرنسية ، عام 1431م ، حتى الآن.
فالمكتبة الوطنية الفرنسية تحتـوي حالياً على ما يزيد على عشرين ألف كتاب عن جان دارك ، فقد كتب عنها المؤرخون ، العلمانيون منهم وغير العلمانيين ، المعاصرون منـهم والمحدثون ، فقـد كتـب عنـهـا ، على سبيل المثال الفيلسوف الفرنسي فولتير والأديب الإنجليزي شكسبير والأديب الألماني شيلر ، والناقد الإنجليزي دي كوينسي ، والكاتب الأمريكي مارك توين ، والأديب الألماني برخت ، والأديب الإنجليزي برناردشو.
ومنذ بدايات القرن العشرين أخذت الأفلام عنها تتوالى ، مثل فيلم (آلام جان دارك ) الذي أخرجه الدانماركي كارل دبير ، ولعبت فيه الممثلة الإيطاليا ماريا فالكونتي دور جان دارك . وقبل نهاية القرن نفسه ظهر عنها فيلمان من أروع الأفلام الأمريكية ، فمَن هي جان دارك ؟ وما قصتها؟ وما مكانتها التاريخية؟
في الواقع لا نستطيع أن نتعرّف على جان دارك إلا إذا اطلعنا على الإطار التاريخي الذي ظهرت فيه ، والظروف التي أحاطت بها وببلادها ، لأن سيرتها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بأخطر حدثين اجتاحا أوربا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر ، وهما حرب المائة عام التي اندلعت بين فرنسا و إنجلترا ، ما بين عامي 1337و 1453 م ، والانشقاق الأكبر الذي وقع في الكنيسة الغربية الكاثوليكية (البابوية) ما بين عامي 1378 و 1417م. فهذان الحدثان انعكسا بشكل مباشر على حياة جان دارك ، بل لا نبالغ إذا قلنا إنهما أسهما إسهاماً مباشراً في صياغة قصة حياتها ومماتها على السواء.
أما بالنسبة إلى حرب المائة عام ، فإنها تعود في جذورها إلى المشكلات التي أفرزتها المصاهرات بين الأسرتين المالكتين في كل من فرنسا و إنجلترا . ففي عام 1328 مات الملك الفرنسي شارل الرابع ، وهو آخر الذكور من أبناء الملك فيليب الرابع (ت 1314) ، بحيث لم يبق على قيد الحياة من ذرية الأخير سوى ابنته إيزابيلا التي تزوجت الملك الإنجليزي إدوارد الثاني. وظهر عندئذ اثنان ادعى كل منهما حقه في العرش الفرنسي ، الأول هو الأمير فيليب فالوا وهو ابن أخ فيليب الرابع ، والثاني هو إدوارد الثالث ابن إيزابيلا. ودعم الشعب الفرنسي حق فيليب في العرش وتم تتويجه ملكاً على فرنسا عام 1328 لقطع الطريق على مزاعم الإنجليز في العرش الفرنسي. ولم يكتف فيليب بذلك وإنما قام عام 1337 بمصادرة دوقية غاسكوني الفرنسية التي كان يعتبرها الإنجليز من أملاكهم في القارة ، فأعلن إدوارد الثالث الحرب على فيليب في العام نفسه (1337) ، وبذلك اندلعت حرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا .
وإذا كان المجال لا يسعنا للإفاضة بتفاصيل هذه الحرب ومراحلها ، إلا أنه ينبغي أن نشير إلى أن الإنجليز حققوا انتصارات مذهلة على الفرنسيين واستولوا على أجزاء كبيرة من بلادهم ، ويهمنا أن نذكر هنا أنه بعد انتصار الإنجليز في معركة أجينكورت عام 1415 ، فرضوا على الفرنسيين معاهدة تروى المشهورة (عام 1420) ، والتي وقعت بين الملك الفرنسي شارل السابع الذي كان مصاباً بمس ، والملك الإنجليزي هنري الخامس ، وقد تضمنت ، فيما تضمنت ، أن يتزوج الأخير كاترين ابنة شارل السابع ، وأن يكون ابنهما القادم (وهو هنري السادس) وريث العرش الفرنسي ، أي ملكاً على فرنسا وإنجلترا معاً ، وهذا يعني حرمان الأمير شارل السابع ، وهو الابن الوحيد لشارل السابع ، من حقه في العرش الفرنسي وانتقال هذا الحق إلى ابن أخته كاترين. ومما زاد في خطورة الأزمة أن والدة شارل السابع أباحت سراً آنذاك وهو أن الأخير ليس من صلب زوجها شارل السابع. وشكّل هذا النبأ فضيحة بل كارثة على شارل السابع والشعب الفرنسي فضلاً عن الدوائر الكنسية. وفي عام 1422م مات كل من شارل السابع وهنري الخامس. ووفقاً لمعاهدة تروى غدا هنري السادس ، البالغ من العمر سنة واحدة ، ملكا على إنجلترا وفرنسا معاً.
في بوتقة الضياع
ونود أن نؤكد على أنه خلال هذه الحرب ، التي دامت أكثر من مائة عام ، استباح الإنجليز وحلفاؤهم الفرنسيون ، أمثال البورجنديين ، فرنسا وقاموا بأبشع ما يمكن أن يقوم به المحتلون من أعمال سلب وقتل وتدمير واغتصاب ، بل جاءت عصابات من كل أرجاء أوربا إلى فرنسا للإفادة من هذه الحرب وما يرافقها من فوضى ، والعمل كمرتزقة عند الفرنسيين والإنجليز على السواء ، وكانت هذه العصابات تقوم بأعمال السلب والنهب في الأرياف والمدن ، أثناء توقف القتال ، لأن الدولتين المتحاربتين لا تدفعان لهم الأجور الكافية.
أما الحدث الثاني الذي أسهم في صياغة حياة جان دارك ووجدانها ، فهو الانشقاق الأكبر ، الذي وقع في الكنيسة الغربية ما بين 1387و1417 ، وما ترتب عليه من نتائج بالغة الخطورة ، ولاسيما فيما يتعلق بثقة شعوب الغرب آنذاك ، بالكنيسة ورجالها. فمن المعروف أن البابوات انتقلوا من مقر إقامتهم التاريخي ، وهو روما ، إلى مدينة أفينون الفرنسية ، وعاشوا فيها أشبه بالأسرى لدى ملوك فرنسا ، من عام 1305 إلى عام 1377م.
وعلى الرغم من عودة البابا إلى روما عام 1378 فإنه سرعان ما انتُخب بابا آخر في مدينة أفينون ، وغدا هناك اثنان من البابوات ، أحدهما يقيم في روما والآخر في أفينون ، وكل منهما يدّعي أنه البابا الشرعي وأنه القائد الوحيد للكنيسة الغربية. وعندما ولدت جان دارك عام 1412م كان هناك ثلاثة يتنافسون على المنصب البابوي ، فبالإضافة إلى بابا روما وبابا أفينون ظهر بابا جديد في بيزا منذ عام 1409. ولم تستقر الأمور وينتهي الانشقاق إلا في مجمع كونستانس عام 1417 بانتخاب البابا مارتن الخامس. ويهمّنا أن نؤكد على أنه خلال هذا الانشقاق كان الملوك الإنجليز يدعمون بابا روما في حين كان ملوك فرنسا يدعمون بابا أفينون. وقام كل من البابوين بحرمان البابا الآخر ومن كان يقف معه من ملوك وأمراء ورجال دين. وكان الإنجليز عندما يحتلون مدينة في فرنسا ، أثناء حرب المائة عام ، يقومون بعزل الأساقفة المناصرين لبابا أفينون ، ويعينون آخرين يناصرون بابا روما. وكذلك قام الفرنسيون بعزل من كان موالياً لبابا روما والإنجليز. ويتفق الباحثون على أن الانشقاق الكنسي أدى إلى نتائج بالغة الأهمية من الناحية الدينية ، بل ربما تفوق في خطورتها ما أدت إليه الحرب من نتائج سياسية واقتصادية وبشرية ، فقد اضطربت الحياة الدينية في الغرب اضطراباً عميقاً ، وغدت شعوب الغرب لا تعرف من هو البابا الحقيقي أو الشرعي ، وفقد البابوات مكانتهم وفقدت الشعوب ثقتها بها.
ولهذا عندما ظهرت جان دارك على مسرح الأحداث كانت فرنسا ترتعد فرائصها ، وهي تطفو فوق بحر من الرعب والدمار والقتل والاغتصاب والحرمان... إلخ ، وغدت هذه الأمور جزءاً من الحياة اليومية ، وباختصار ، فقد دمرت هذه المحن ، على امتداد قرن من الزمن ، روح فرنسا ووجدانها ، ومزّقت أرضها وشعبها ، وأخذت الآمال والأحلام في الخلاص تراود كل الفرنسيين ، ولاسيما الأتقياء منهم والمخلصين لوطنهم ودينهم. ومن هذه النقطة يجب أن نبدأ قصة جان دارك .
ولدت جان دارك عام 1412 في قرية دومرمي الواقعة قرب حدود فرنسا مع اللورين ، على الحدود الشرقية من المملكة الفرنسية. وتألفت أسرتها من ستة أفراد هم: والدها واسمه جاك دارك ووالدتها واسمها إيزابيلا ، وولدان وابنتان ، وكانت جان ، التي عرفت في صغرها باسم جانيت ، هي الابنة الصغرى.
ومع أن جان دارك كانت أمية ، لا تعرف القراءة أو الكتابة ، إلا أنها تعلمت في بيت أهلها الخياطة وغزل الصوف ، كما رعت الغنم لأسرتها في ضواحي القرية مثلها مثل فتيات جيلها في الريف الفرنسي ، ولكنها اشتهرت عنهن بما تميّزت به من أخلاق حميدة وتقوى ، وقد اعتادت منذ نعومة أظفارها بتأثير والدتها ، على الصلاة وعلى سماع قصص الأولياء والقدّيسين.
عندما كانت جان دارك في الثالثة عشرة من عمرها (أي عام 1425) اجتاحت قريتها عصابات من البورجنديين ، حلفاء الإنجليز في الحرب الدائرة ، وعانى الفلاحون العزل الكثير من أعمال السلب والقتل والاغتصاب ، بل لم تتورع تلك العصابات عن إحراق كنيسة القرية بعد نهب محتوياتها ، ويبدو أن هذه الأحداث تكررت كثيراً ، حتى أن عشرات من أسر الفلاحين ، بما فيها أسرة جان دارك ، اضطرت إلى النزوح إلى القرى والمدن المجاورة ، ولانبالغ إذا قلنا إن جان دارك نشأت وعقلها قد امتلأ بسير القدّيسين والأولياء الصالحين من ناحية وبقصص الفظائع التي كان يرتكبها الإنجليز وحلفاؤهم البورجنديون في فرنسا من ناحية أخرى. ولهذا فقد كان طبيعياً أن تترعرع هذه الفتاة وقد تشرّبت آلام أبناء أمتها وآمالهم في الخلاص من هذه المحن.
إرادة تتحدى العواصف
يروي المؤرخون أنه عندما بلغت جان دارك الثالثة عشرة من عمرها ، أي في العام نفسه الذي اجتاحت فيه عصابات البورجنديين قريتها ، ادّعت أنها سمعت أصوات بعض القدّيسين تبلغها أنها مكلفة مهمة التوجه إلى مدينة أورليان لتخليصها من الحصار الإنجليزي المفروض عليها. ومن ثم عليها اصطحاب الأمير شارل السابع إلى مدينة ريمس لتتويجه ملكاً على فرنسا لأنه الابن الحقيقي للملك شارل السابع والوريث الشرعي للعرش الفرنسي.
http://www.arabesquesociety.com/wp-content/uploads/2015/05/640px-Joan_of_Arc_on_horseback.png
والواقع أن ظاهرة جان دارك لم تكن جديدة في ذلك العصر ، لأن الأصوات والرؤى والأحلام غدت شائعة في فرنسا آنذاك ، ولاسيما بين النساء ، وكانت توجه لهن تهمة ممارسة السحر أوالشعوذة أو الجنون أو كلها مجتمعة ، وهذا الأمر يفسر لنا الصعوبات التي واجهتها جان دارك ، في البداية ، لإقناع من حولها بمهمتها. وعلى أي حال ، فقد تعددت آراء الباحثين ، ولازالت ، حول حقيقة ما ذهبت إليه جان دارك . هل هو انعكاس لأحاسيس عامة كانت سائدة بين الفرنسيين؟ أو تعبير عمّا يدور في اللاشعور عند جان دارك ؟ هل هو إسقاط لرغبات وآمال عميقة لا يجرؤ المرء على البوح بها إلا بتلك الصيغة؟ هل هي الحاسّة السادسة (الباراسيكولوجية)؟ هل هي... إلخ ، ومهما يكن من أمر فإن ما يهمنا هنا هو رصد بعض ما ترتب على ظاهرة جان دارك من نتائج.
وقابلت جان دارك الحاكم العسكري المحلي ، ملتمسة منه المساعدة للوصول إلى بلاط شارل السابع القابع مكتئباً في قلعة بمدينة شينون. وبعد تردد استجاب لطلبها ، وزوّدها بالأسلحة والدروع وعدد من الحرّاس لمرفقتها ، وفي فبراير من عام 1429م ، انطلقت جان دارك في مهمتها وهي تركب جواداً وترتدي ملابس الفرسان ، وبعد أحد عشر يوماً ، كان شارل السابع في استقبالها ، ويقول المؤرخون المعنيون بهذا الموضوع إن شارل أخفى نفسه بين عشرات من رجالات بلاطه الذين احتشدوا لرؤيتها ، إلا أنها نجحت في التعرّف عليه دون كل الحضور وأمام ذهول الجميع ودهشتهم ، وأخبرت جان دارك شارل السابع أنها (أداة لتنفيذ إرادة الله) في تخليص أورليان وتتويجه لأنه الملك الشرعي لفرنسا . وعلى الرغم من أن شارل قد دُهش واغتبط في آن واحد لما سمعه إلا أنه كان يشك فيما كانت تقوله هذه الفتاة التي ترتدي ملابس الرجال ، ولهذا بعثها برفقة عدد من كبار رجال بلاطه إلى مدينة بواتييه لتخضع إلى فحص من قبل هيئة دينية بغية التأكد من سلامة عقيدتها وأخلاقها ، وبالفعل ، قامت لجنة مؤلفة من ثمانية عشر عضواً ، كان من بينهم رئيس أساقفة ريمس ، بالمهمة على أحسن وجه.
وجاءت النتائج لصالح جان دارك إذ تبين أن الفتاة في غاية التقوى والورع وأنها تؤمن إيماناً عميقاً بأن كل ما تقوله (هو تنفيذ لمشيئة الله). وأكدت اللجنة أنها لم تجد في كل ما قالته الفتاة أي أثر لهرطقة أو سحر أو شعوذة ، ولهذا كله فهي تنصح شارل بالإصغاء لها والعبرة في النتائج.
وفي ضوء ذلك كله سمح لها شارل بقيادة جيشه لتخليص أورليان من الحصار الإنجليزي.
https://mamdouha.files.wordpress.com/2012/02/joan-of-arc1.jpg?w=640
قبل أن تنطلق جان دارك إلى أورليان كان قد ذاع صيتها في أرجاء فرنسا حتى أنه لم يصل إلى مسامع الفرنسيين فحسب ، وإنما إلى مسامع الإنجليز المحتلين وحلفائهم أيضاً. وبحكم سيكولوجية انتشار الإشاعات ، وبخاصة في مثل ذلك العصر ، فقد نسب إلى جان دارك أنها تصنع الكثير من (المعجزات). ويبدو أنه في هذه الفترة أملت جان دارك رسالة موجهة إلى المقيم الإنجليزي في فرنسا وقادته تتضمن التهديد والوعيد ، وتبلغهم بأنها مكلفة مهمة طردهم من فرنسا وتطلب منهم المغادرة بالتي هي أحسن وإلا فعليهم أن يتحملوا مسئولية ما اقترفت أيديهم من آثام بحق بلادها وشعبها. وإذا كنا لا نعرف بالدقة ما كان لهذه الرسالة من تأثير على الإنجليز إلا أننا على يقين من أنها أسهمت في رفع روح الصمود والاستبسال في أوساط الفرنسيين الذين كانوا يعانون من الحصار في أورليان.
كان الإنجليز قد فرضوا الحصار على أورليان منذ أكتوبر عام 1428 ، وكان حاكمها الفرنسي في الأسر الإنجليزي منذ معركة أجينكورت التي وقعت عام 1415. وتعد هذه المدينة جسراً مهماً بين شمال فرنسا وجنوبها. وخلال ذلك الحصار تلقى الطرفان الإنجليز المحاصِرون والفرنسيون المحاصَرون ، تعزيزات كثيرة ، ولكن كان يبدو واضحاً أن ميزان القوى كان يميل إلى صالح الإنجليز بحيث يمكن أن تسقط المدينة أمام أي هجوم إنجليزي قوي.
لم تحظ فتاة بمكانة متميزة في تاريخ أوربا عامة وتاريخ فرنسا خاصة ، كالتي حظيت بها الفتاة الريفية الفرنسية جان دارك ، ويشهد على ذلك العدد الضخم من المؤلفات التي كتبت عنها ، منذ إعدامها حرقاً في مدينة روان ، بمقاطعة نورمانديا الفرنسية ، عام 1431م ، حتى الآن.
فالمكتبة الوطنية الفرنسية تحتـوي حالياً على ما يزيد على عشرين ألف كتاب عن جان دارك ، فقد كتب عنها المؤرخون ، العلمانيون منهم وغير العلمانيين ، المعاصرون منـهم والمحدثون ، فقـد كتـب عنـهـا ، على سبيل المثال الفيلسوف الفرنسي فولتير والأديب الإنجليزي شكسبير والأديب الألماني شيلر ، والناقد الإنجليزي دي كوينسي ، والكاتب الأمريكي مارك توين ، والأديب الألماني برخت ، والأديب الإنجليزي برناردشو.
ومنذ بدايات القرن العشرين أخذت الأفلام عنها تتوالى ، مثل فيلم (آلام جان دارك ) الذي أخرجه الدانماركي كارل دبير ، ولعبت فيه الممثلة الإيطاليا ماريا فالكونتي دور جان دارك . وقبل نهاية القرن نفسه ظهر عنها فيلمان من أروع الأفلام الأمريكية ، فمَن هي جان دارك ؟ وما قصتها؟ وما مكانتها التاريخية؟
في الواقع لا نستطيع أن نتعرّف على جان دارك إلا إذا اطلعنا على الإطار التاريخي الذي ظهرت فيه ، والظروف التي أحاطت بها وببلادها ، لأن سيرتها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بأخطر حدثين اجتاحا أوربا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر ، وهما حرب المائة عام التي اندلعت بين فرنسا و إنجلترا ، ما بين عامي 1337و 1453 م ، والانشقاق الأكبر الذي وقع في الكنيسة الغربية الكاثوليكية (البابوية) ما بين عامي 1378 و 1417م. فهذان الحدثان انعكسا بشكل مباشر على حياة جان دارك ، بل لا نبالغ إذا قلنا إنهما أسهما إسهاماً مباشراً في صياغة قصة حياتها ومماتها على السواء.
أما بالنسبة إلى حرب المائة عام ، فإنها تعود في جذورها إلى المشكلات التي أفرزتها المصاهرات بين الأسرتين المالكتين في كل من فرنسا و إنجلترا . ففي عام 1328 مات الملك الفرنسي شارل الرابع ، وهو آخر الذكور من أبناء الملك فيليب الرابع (ت 1314) ، بحيث لم يبق على قيد الحياة من ذرية الأخير سوى ابنته إيزابيلا التي تزوجت الملك الإنجليزي إدوارد الثاني. وظهر عندئذ اثنان ادعى كل منهما حقه في العرش الفرنسي ، الأول هو الأمير فيليب فالوا وهو ابن أخ فيليب الرابع ، والثاني هو إدوارد الثالث ابن إيزابيلا. ودعم الشعب الفرنسي حق فيليب في العرش وتم تتويجه ملكاً على فرنسا عام 1328 لقطع الطريق على مزاعم الإنجليز في العرش الفرنسي. ولم يكتف فيليب بذلك وإنما قام عام 1337 بمصادرة دوقية غاسكوني الفرنسية التي كان يعتبرها الإنجليز من أملاكهم في القارة ، فأعلن إدوارد الثالث الحرب على فيليب في العام نفسه (1337) ، وبذلك اندلعت حرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا .
وإذا كان المجال لا يسعنا للإفاضة بتفاصيل هذه الحرب ومراحلها ، إلا أنه ينبغي أن نشير إلى أن الإنجليز حققوا انتصارات مذهلة على الفرنسيين واستولوا على أجزاء كبيرة من بلادهم ، ويهمنا أن نذكر هنا أنه بعد انتصار الإنجليز في معركة أجينكورت عام 1415 ، فرضوا على الفرنسيين معاهدة تروى المشهورة (عام 1420) ، والتي وقعت بين الملك الفرنسي شارل السابع الذي كان مصاباً بمس ، والملك الإنجليزي هنري الخامس ، وقد تضمنت ، فيما تضمنت ، أن يتزوج الأخير كاترين ابنة شارل السابع ، وأن يكون ابنهما القادم (وهو هنري السادس) وريث العرش الفرنسي ، أي ملكاً على فرنسا وإنجلترا معاً ، وهذا يعني حرمان الأمير شارل السابع ، وهو الابن الوحيد لشارل السابع ، من حقه في العرش الفرنسي وانتقال هذا الحق إلى ابن أخته كاترين. ومما زاد في خطورة الأزمة أن والدة شارل السابع أباحت سراً آنذاك وهو أن الأخير ليس من صلب زوجها شارل السابع. وشكّل هذا النبأ فضيحة بل كارثة على شارل السابع والشعب الفرنسي فضلاً عن الدوائر الكنسية. وفي عام 1422م مات كل من شارل السابع وهنري الخامس. ووفقاً لمعاهدة تروى غدا هنري السادس ، البالغ من العمر سنة واحدة ، ملكا على إنجلترا وفرنسا معاً.
في بوتقة الضياع
ونود أن نؤكد على أنه خلال هذه الحرب ، التي دامت أكثر من مائة عام ، استباح الإنجليز وحلفاؤهم الفرنسيون ، أمثال البورجنديين ، فرنسا وقاموا بأبشع ما يمكن أن يقوم به المحتلون من أعمال سلب وقتل وتدمير واغتصاب ، بل جاءت عصابات من كل أرجاء أوربا إلى فرنسا للإفادة من هذه الحرب وما يرافقها من فوضى ، والعمل كمرتزقة عند الفرنسيين والإنجليز على السواء ، وكانت هذه العصابات تقوم بأعمال السلب والنهب في الأرياف والمدن ، أثناء توقف القتال ، لأن الدولتين المتحاربتين لا تدفعان لهم الأجور الكافية.
أما الحدث الثاني الذي أسهم في صياغة حياة جان دارك ووجدانها ، فهو الانشقاق الأكبر ، الذي وقع في الكنيسة الغربية ما بين 1387و1417 ، وما ترتب عليه من نتائج بالغة الخطورة ، ولاسيما فيما يتعلق بثقة شعوب الغرب آنذاك ، بالكنيسة ورجالها. فمن المعروف أن البابوات انتقلوا من مقر إقامتهم التاريخي ، وهو روما ، إلى مدينة أفينون الفرنسية ، وعاشوا فيها أشبه بالأسرى لدى ملوك فرنسا ، من عام 1305 إلى عام 1377م.
وعلى الرغم من عودة البابا إلى روما عام 1378 فإنه سرعان ما انتُخب بابا آخر في مدينة أفينون ، وغدا هناك اثنان من البابوات ، أحدهما يقيم في روما والآخر في أفينون ، وكل منهما يدّعي أنه البابا الشرعي وأنه القائد الوحيد للكنيسة الغربية. وعندما ولدت جان دارك عام 1412م كان هناك ثلاثة يتنافسون على المنصب البابوي ، فبالإضافة إلى بابا روما وبابا أفينون ظهر بابا جديد في بيزا منذ عام 1409. ولم تستقر الأمور وينتهي الانشقاق إلا في مجمع كونستانس عام 1417 بانتخاب البابا مارتن الخامس. ويهمّنا أن نؤكد على أنه خلال هذا الانشقاق كان الملوك الإنجليز يدعمون بابا روما في حين كان ملوك فرنسا يدعمون بابا أفينون. وقام كل من البابوين بحرمان البابا الآخر ومن كان يقف معه من ملوك وأمراء ورجال دين. وكان الإنجليز عندما يحتلون مدينة في فرنسا ، أثناء حرب المائة عام ، يقومون بعزل الأساقفة المناصرين لبابا أفينون ، ويعينون آخرين يناصرون بابا روما. وكذلك قام الفرنسيون بعزل من كان موالياً لبابا روما والإنجليز. ويتفق الباحثون على أن الانشقاق الكنسي أدى إلى نتائج بالغة الأهمية من الناحية الدينية ، بل ربما تفوق في خطورتها ما أدت إليه الحرب من نتائج سياسية واقتصادية وبشرية ، فقد اضطربت الحياة الدينية في الغرب اضطراباً عميقاً ، وغدت شعوب الغرب لا تعرف من هو البابا الحقيقي أو الشرعي ، وفقد البابوات مكانتهم وفقدت الشعوب ثقتها بها.
ولهذا عندما ظهرت جان دارك على مسرح الأحداث كانت فرنسا ترتعد فرائصها ، وهي تطفو فوق بحر من الرعب والدمار والقتل والاغتصاب والحرمان... إلخ ، وغدت هذه الأمور جزءاً من الحياة اليومية ، وباختصار ، فقد دمرت هذه المحن ، على امتداد قرن من الزمن ، روح فرنسا ووجدانها ، ومزّقت أرضها وشعبها ، وأخذت الآمال والأحلام في الخلاص تراود كل الفرنسيين ، ولاسيما الأتقياء منهم والمخلصين لوطنهم ودينهم. ومن هذه النقطة يجب أن نبدأ قصة جان دارك .
ولدت جان دارك عام 1412 في قرية دومرمي الواقعة قرب حدود فرنسا مع اللورين ، على الحدود الشرقية من المملكة الفرنسية. وتألفت أسرتها من ستة أفراد هم: والدها واسمه جاك دارك ووالدتها واسمها إيزابيلا ، وولدان وابنتان ، وكانت جان ، التي عرفت في صغرها باسم جانيت ، هي الابنة الصغرى.
ومع أن جان دارك كانت أمية ، لا تعرف القراءة أو الكتابة ، إلا أنها تعلمت في بيت أهلها الخياطة وغزل الصوف ، كما رعت الغنم لأسرتها في ضواحي القرية مثلها مثل فتيات جيلها في الريف الفرنسي ، ولكنها اشتهرت عنهن بما تميّزت به من أخلاق حميدة وتقوى ، وقد اعتادت منذ نعومة أظفارها بتأثير والدتها ، على الصلاة وعلى سماع قصص الأولياء والقدّيسين.
عندما كانت جان دارك في الثالثة عشرة من عمرها (أي عام 1425) اجتاحت قريتها عصابات من البورجنديين ، حلفاء الإنجليز في الحرب الدائرة ، وعانى الفلاحون العزل الكثير من أعمال السلب والقتل والاغتصاب ، بل لم تتورع تلك العصابات عن إحراق كنيسة القرية بعد نهب محتوياتها ، ويبدو أن هذه الأحداث تكررت كثيراً ، حتى أن عشرات من أسر الفلاحين ، بما فيها أسرة جان دارك ، اضطرت إلى النزوح إلى القرى والمدن المجاورة ، ولانبالغ إذا قلنا إن جان دارك نشأت وعقلها قد امتلأ بسير القدّيسين والأولياء الصالحين من ناحية وبقصص الفظائع التي كان يرتكبها الإنجليز وحلفاؤهم البورجنديون في فرنسا من ناحية أخرى. ولهذا فقد كان طبيعياً أن تترعرع هذه الفتاة وقد تشرّبت آلام أبناء أمتها وآمالهم في الخلاص من هذه المحن.
إرادة تتحدى العواصف
يروي المؤرخون أنه عندما بلغت جان دارك الثالثة عشرة من عمرها ، أي في العام نفسه الذي اجتاحت فيه عصابات البورجنديين قريتها ، ادّعت أنها سمعت أصوات بعض القدّيسين تبلغها أنها مكلفة مهمة التوجه إلى مدينة أورليان لتخليصها من الحصار الإنجليزي المفروض عليها. ومن ثم عليها اصطحاب الأمير شارل السابع إلى مدينة ريمس لتتويجه ملكاً على فرنسا لأنه الابن الحقيقي للملك شارل السابع والوريث الشرعي للعرش الفرنسي.
http://www.arabesquesociety.com/wp-content/uploads/2015/05/640px-Joan_of_Arc_on_horseback.png
والواقع أن ظاهرة جان دارك لم تكن جديدة في ذلك العصر ، لأن الأصوات والرؤى والأحلام غدت شائعة في فرنسا آنذاك ، ولاسيما بين النساء ، وكانت توجه لهن تهمة ممارسة السحر أوالشعوذة أو الجنون أو كلها مجتمعة ، وهذا الأمر يفسر لنا الصعوبات التي واجهتها جان دارك ، في البداية ، لإقناع من حولها بمهمتها. وعلى أي حال ، فقد تعددت آراء الباحثين ، ولازالت ، حول حقيقة ما ذهبت إليه جان دارك . هل هو انعكاس لأحاسيس عامة كانت سائدة بين الفرنسيين؟ أو تعبير عمّا يدور في اللاشعور عند جان دارك ؟ هل هو إسقاط لرغبات وآمال عميقة لا يجرؤ المرء على البوح بها إلا بتلك الصيغة؟ هل هي الحاسّة السادسة (الباراسيكولوجية)؟ هل هي... إلخ ، ومهما يكن من أمر فإن ما يهمنا هنا هو رصد بعض ما ترتب على ظاهرة جان دارك من نتائج.
وقابلت جان دارك الحاكم العسكري المحلي ، ملتمسة منه المساعدة للوصول إلى بلاط شارل السابع القابع مكتئباً في قلعة بمدينة شينون. وبعد تردد استجاب لطلبها ، وزوّدها بالأسلحة والدروع وعدد من الحرّاس لمرفقتها ، وفي فبراير من عام 1429م ، انطلقت جان دارك في مهمتها وهي تركب جواداً وترتدي ملابس الفرسان ، وبعد أحد عشر يوماً ، كان شارل السابع في استقبالها ، ويقول المؤرخون المعنيون بهذا الموضوع إن شارل أخفى نفسه بين عشرات من رجالات بلاطه الذين احتشدوا لرؤيتها ، إلا أنها نجحت في التعرّف عليه دون كل الحضور وأمام ذهول الجميع ودهشتهم ، وأخبرت جان دارك شارل السابع أنها (أداة لتنفيذ إرادة الله) في تخليص أورليان وتتويجه لأنه الملك الشرعي لفرنسا . وعلى الرغم من أن شارل قد دُهش واغتبط في آن واحد لما سمعه إلا أنه كان يشك فيما كانت تقوله هذه الفتاة التي ترتدي ملابس الرجال ، ولهذا بعثها برفقة عدد من كبار رجال بلاطه إلى مدينة بواتييه لتخضع إلى فحص من قبل هيئة دينية بغية التأكد من سلامة عقيدتها وأخلاقها ، وبالفعل ، قامت لجنة مؤلفة من ثمانية عشر عضواً ، كان من بينهم رئيس أساقفة ريمس ، بالمهمة على أحسن وجه.
وجاءت النتائج لصالح جان دارك إذ تبين أن الفتاة في غاية التقوى والورع وأنها تؤمن إيماناً عميقاً بأن كل ما تقوله (هو تنفيذ لمشيئة الله). وأكدت اللجنة أنها لم تجد في كل ما قالته الفتاة أي أثر لهرطقة أو سحر أو شعوذة ، ولهذا كله فهي تنصح شارل بالإصغاء لها والعبرة في النتائج.
وفي ضوء ذلك كله سمح لها شارل بقيادة جيشه لتخليص أورليان من الحصار الإنجليزي.
https://mamdouha.files.wordpress.com/2012/02/joan-of-arc1.jpg?w=640
قبل أن تنطلق جان دارك إلى أورليان كان قد ذاع صيتها في أرجاء فرنسا حتى أنه لم يصل إلى مسامع الفرنسيين فحسب ، وإنما إلى مسامع الإنجليز المحتلين وحلفائهم أيضاً. وبحكم سيكولوجية انتشار الإشاعات ، وبخاصة في مثل ذلك العصر ، فقد نسب إلى جان دارك أنها تصنع الكثير من (المعجزات). ويبدو أنه في هذه الفترة أملت جان دارك رسالة موجهة إلى المقيم الإنجليزي في فرنسا وقادته تتضمن التهديد والوعيد ، وتبلغهم بأنها مكلفة مهمة طردهم من فرنسا وتطلب منهم المغادرة بالتي هي أحسن وإلا فعليهم أن يتحملوا مسئولية ما اقترفت أيديهم من آثام بحق بلادها وشعبها. وإذا كنا لا نعرف بالدقة ما كان لهذه الرسالة من تأثير على الإنجليز إلا أننا على يقين من أنها أسهمت في رفع روح الصمود والاستبسال في أوساط الفرنسيين الذين كانوا يعانون من الحصار في أورليان.
كان الإنجليز قد فرضوا الحصار على أورليان منذ أكتوبر عام 1428 ، وكان حاكمها الفرنسي في الأسر الإنجليزي منذ معركة أجينكورت التي وقعت عام 1415. وتعد هذه المدينة جسراً مهماً بين شمال فرنسا وجنوبها. وخلال ذلك الحصار تلقى الطرفان الإنجليز المحاصِرون والفرنسيون المحاصَرون ، تعزيزات كثيرة ، ولكن كان يبدو واضحاً أن ميزان القوى كان يميل إلى صالح الإنجليز بحيث يمكن أن تسقط المدينة أمام أي هجوم إنجليزي قوي.