عبادي فنان العالم
13-03-2014, 12:53 PM
زرياب وأثره في الحياة الاجتماعية والفنية في الأندلس
------------------------------------------------------------------------
تناول هذا البحث حياة المغني والموسيقي زرياب، وأثره على الحياة الاجتماعية والفنية في الأندلس، ويشتمل على سيرته في بغداد، وتاريخ رحيله إلى الأندلس وأسبابه، وتأثيره في حياتها الاجتماعية في المأكل والملبس والسلوك، وفي حياتها الفنية بما أدخله من تحسينات على العود، وتلاميذه في الغناء والموسيقى، وقد توفي زرياب عام 243هـ عن عمر يناهز سبعين عاماً.
يُعد زرياب من موالي الخليفة العباسي المهدي، وقد ولد ببغداد في حدود سنة 173هـ، ثم تلقى تعليمه في مدرسة اسحق الموصلي الفنية ليصبح أشهر تلاميذها، وقد مكنه ذلك من الاتصال بالخليفة الرشيد في آخر أيامه، إلا أن تردي الأوضاع الاقتصادية في بغداد بسبب الفتنة التي أعقبت وفاة الرشيد، وخلافه مع أستاذه الموصلي، وخوفه على نفسه من المأمون لأنه كان من أنصار الأمين، ورغبته في تحقيق المجد والشهرة، دفعته إلى الهجرة إلى الأندلس، حيث حظي برعاية الإمارة الأموية فيها حتى وفاته، و نال خلال حياته فيها الشهرة والثراء الأمر الذي أثار عليه حقد حساده ومبغضيه، وترك زرياب أثاراً جمة في حياة أهلها الاجتماعية في المأكل والملبس، واستخدام مواد التجميل، هذا فضلاً عن التحسينات العديدة التي أدخلها على آلة العود، وفي مقدمتها إضافة الوتر الخامس فيه، ومدرسته التي خرّجت العديد من مغنيي وملحني الأندلس والمغرب وأوروبا.
سيرته قبل رحيله إلى بغداد :
هو أبو الحسن علي بن نافع الملقب بزرياب (1)، وقد غلب اللقب على الاسم حتى شهر به. وتعزو المصادر التاريخية، التي ترجمت لحياته، سبب اللقب إلى أن زرياب لقب به في بلده «لسواد لونه، مع فصاحة لسانه، وحلاوة شمائله، شبه بطير أسود غًرِدٍ عندهم». (2) لعله البلبل المشهور بعذوبة تغريده وسواد لونه.
في حين تذكر المعاجم اللغوية أن الكلمة فارسية معربة، وتعني الذهب أو الأصفر من كل شيء (3) ؛ أي أنه لقب بزرياب؛ لأنه صاحب صوت ذهبي. وقد وردت الكلمة في الشعر بمعنى الذهب، على لسان أحد شعراء العصر العباسي الأول يمدح مجلس أنس حضره فيقول:
في مجلس مطرت سماوة سقفه .. ثمر النعيم تخـاله زريـابـا
وحملت مغنية عاشت في العصر العباسي الأول اسم زرياب (5). وليس هناك ما يشير إلى أنها كانت سوداء اللون، وهذا يشعر بأن اللقب لا يتعلق بسواد اللون المقرون بجمال الصوت، فقد كان إبراهيم بن المهدي العباسي المعاصر لزرياب، مغنياً مشهوراً، عذب الصوت، أسود اللون(6). ولم يلقب بزرياب.
يفهم مما تقدم أن كلمة زرياب تعني الذهب، وأنها أطلقت على صاحب الصوت الجميل على سبيل المجاز تشبيهاً له بالذهب. وما زال هذا الوصف شائعاً حتى وقتنا الحاضر؛ إذ يقال لصاحب الصوت الجميل، إنه صاحب صوت ذهبي. على أن تفسير اللغويين والمؤرخين متقارب. إذ أن كليهما يدل على صاحب الصوت الجميل.
ولم تحدد المصادر الأولية التي اعتمد عليها البحث مكان ولادة زرياب وتاريخها، وينفرد بروفنسال من بين المراجع الحديثة التي ترجمت له بالقول: إن زرياب ولد في العراق سنة (173هـ/ 789م) (7) دون أن يشير إلى المصادر التي استقى منها معلوماته، ولا تذكر المصادر شيئاً عن طفولته سوى أنه من موالي المهدي العباسي (158-169هـ/ 774-785م) (8). وربما جاءه هذا الولاء عن طريق والده، لأن زرياب ولد بعد وفاة المهدي بسنوات عدة، وقدّمه إسحق الموصلي للرشيد على أنه عبد له (9).وربما يعود الغموض في سيرته الأولى إلى كونه مغموراً في صباه، فلم يهتم به أحد من المؤرخين.
تَلقّى زرياب تعليمه في مدرسة إسحق الموصلي* الفنية، التي تميزت باهتمامها برفع المستوى الثقافي لتلاميذها، فضلاً عن تعليمهم الموسيقى والغناء، فكانوا يتلقون دروساً في مختلف علوم عصرهم كالقرآن، والآداب، والتاريخ، يستشف ذلك من وصف اسحق الموصلي لبرنامج تعليمه اليومي، فيذكر بأنه كـان يبدأ يومه بدراسة القرآن عند الفراء (ت: 207هـ) والكسائي (ت: 183 هـ)، ثم يذهب فيتعلم عزف العود من خاله زلزل**، ويعقب ذلك برواية الأخبار والأشعار على الأصمعي (ت: 213 هـ) وأبي عبيدة (ت: 211 هـ)، ويختم برنامجه بدرس في الغناء عند عاتكة بنت شهدة (10) وقد انعكس ذلك على زرياب فتخرج من هذه المدرسة موسيقاراً بارعاً، ومغنياً لامعاً فضلاً عن معرفته بعلوم الفلك والجغرافية حسبما أورده المقري: «كان زرياب عالماً بالنجوم، وقسمة الأقاليم السبعة واختلاف طبائعها وأهويتها، وتشعب بحارها، وتصنيف بلادها وسكانها، مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها»(11). ويضيف المقري إلى ذلك «معرفته الواسعة بالتاريخ وأخبار الملوك، فلما رحل إلى الأندلس، وخلا به الأمير عبد الرحمن بن الحكم ذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء، ونوادر العلماء، فحرك منه بحراً زخر عليه مده، فأعجب الأمير به، وراقه ما أورده»(12). وبالإضافة إلى ذلك فقد كان زرياب شاعراً مجيداً (13) ومن شعره هذه الأبيات:
علقتهــا ريحانــة هيفاء عاطرة نضيــرة
بين السمينة والهزيلـة والطويلة والقصيـــرة
للــه أيــام لنــا سلفت على دير المطيـرة
لا عيـب فيها للمتيـم غير أن كانت قصيــرة
وقد ساعدت هذه الثقافة الشاملة على تفجير طاقاته الإبداعية في النواحي الاجتماعية والفنية فيما بعد.
رحيله عن بغداد إلى الأندلس:
تعزو بعض المصادر سبب رحيله عن بغداد إلى حسد أستاذه الموصلي له، وخوفه من أن يحتل زرياب مكانه عند الرشيد بعد أن نال غناؤه وعزفه إعجـاب الخليفة(15). ورددت ذلك الدراسات الحديثة التي تناولت الموضوع دون نقد أو تمحيص16). ويورد المقري القصة بتفاصيلها فيذكر أن الخليفة هارون الرشيد طلب من إسحق الموصلي أن يسمعه صوت مغنّ مجيد الصنعة لم يسبق للخليفة أن سمعه من قبل. فاقترح عليه إسحق أن يأتيه بغلامه زرياب الذي يعود الفضل إليه في اكتشاف موهبته وتعليمه، «وهو من اختراعي واستنباط فكري، وأحدس أن يكون له شأن»(17). وتوقع أن تزيده نجابة تلميذه حظوة عند الخليفة، لكن الأمور جاءت بخلاف ما تمناه، فلما دخل زرياب على الرشيد بدا واضحاً أنه واثق من نفسه معتد بفنه، فقد رفض أن يستخدم عود أستاذه، وطلب من الخليفة أن يأذن له باستخدام عوده الشخصي الذي أحضره معه، ولم ير الرشيد في عود زرياب ما يختلف عن عود أستاذه، فقال لزرياب: "ما أراهما إلا واحداً ". لكن زرياب بيَّن للخليفة أن التشابه في الشكل الخارجي فقط، وأن هناك فروقاً جوهرية غير ظاهرة منها، أن عوده أخف وزناً من عود أستاذه، كما أن أوتاره أمتن وأفضل أداء للنغم، فأعجب الرشيد بوصفه وسمح له في الغناء بعوده، فلما أتم غناءه طار الرشيد طرباً، وقال لإسحق:"خذه إليك وأعتن بشأنه حتى أفرغ له، فإن لي فيه نظراً"(18).
هاج بإسحق الحسد، فخلا بزرياب، ووبخه على إخفائه قدراته عنه، وعبر له عن مخاوفه من إعجاب الرشيد به قائلاً: «قد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك، وقصدت منفعتك، فإذا أنا قد أتيت على نفسي من مأمنها بإدنائك، وعن قليل تسقط منزلتي وترقى أنت فوقي، وهذا مالا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي». (19) وخيـره بيـن أمريـن: الرحيل عن بغداد إلى جهة لا يسمع فيها خبره، أو البقاء فيها رغماً عنه، وعندها فإنه، أي إسحق، لن يدخر وسعا في القضاء عليه. فاختار زرياب الرحيل، وأعانه اسحق بالمال والظهر، ورحل زرياب عن بغداد، واتصل بالأمويين في الأندلس، وانتقل إليها في مطلع إمارة عبد الرحمن بن الحكم سنة (206هـ/ 821م)(20).
ويفهم من رواية المقري أن رحيل زرياب من بغداد إلى الأندلس تم مباشرة بعد انتهاء الحفلة التي قدمها أمام الرشيد، وهذا بعيد عن الاحتمال كما سنرى، فالرشيد توفي خارج بغداد، وبالتحديد في مدينة طوس، وهو خارج لقمع ثورة رافع بن الليث سنة (193هـ/808م) (21) بينما دخل زرياب الأندلس في الأيام الأولى من حكم الأمير عبد الرحمن بن الحكم سنة (206هـ/821م) (22). وإذا افترضنا أن زرياب التقى الرشيد في مطلع السنة التي توفي فيها، فإن هناك ما يقارب ثلاثة عشر عاماً بين رحيله عن بغداد ووصوله إلى الأندلس، لا يورد المقري شيئاً عنها. وهذا يدعو إلى الشك في رحيله عن بغداد زمن الرشيد، وهو ما تؤكده رواية ابن القوطية التي تذكر أن رحيله عن بغداد تم في مطلع خلافة المأمون، بسبب خوفه على نفسه؛ لأنه كان من المقربين للأمين، وهذا نص الرواية: «قدم زرياب على الأمير عبد الرحمن بن الحكم رحمه الله، وكان بالمحل القريب من الأمير محمد بن هارون، الأمين، وكان المأمون الوالي بعد الأمين فعدد عليه أشياء. فلما قتل الأمين فر إلى الأندلس، فحل من عبد الرحمن بن الحكم بكل محل»(23). وكان مقتل الأمين سنة (198هـ/813م).
وأول إشارة عن وصول زرياب إلى افريقية تقول إنه دخلها في عهد الأمير الأغلبي زيادة الله الأول (201-223 هـ / 816 – 837م)(24). إذ يذكر ابن عبد ربه أن زرياباً: «انتقل إلى القيروان إلى بني الأغلب، فدخل على زيادة الله بن إبراهيم»(25) في سنة (206 هـ/ 821م)، وأنه لم يمكث طويلاً هناك، لأنه عرض بأميرها في غنائه فغضب عليه وجلده، وأمره بالخروج من القيروان في مدة أقصاها ثلاثة أيام، وقال له: «إن وجدتك في بلدي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك «فجاز البحر إلى الأندلس»(26). وهذا يشعر أنّ زرياباً لم يرحل عن بغداد بسبب حسد أستاذه له، وخوفه على نفسه من المأمون فقط، وأن هناك أسباباً أخرى لا تقل أهمية عن هذه الأسباب، منها: كساد سوق الغناء في بغداد خاصة والعراق عامة في أثناء الفتنة بين الأمين والمأمون، وتردي أوضاع المغنين الاقتصادية الأمر الذي جعل معاصريه من مغنيي بغداد يغبطونه على المكانة التي حصل عليها عند الأمويين في الأندلس، يتضح ذلك بصورة جلية من قول علوية، مولى بني أمية*** ، ومغني المأمون، وقد لامه الأخير على ذكر بني أمية بحضرته: «يا أمير المؤمنين، أتلومني أن أذكر موالي بني أمية، وهذا زرياب مولاك عندهم بالأندلس، يركب في أكثر من مائة مملوك، وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع، وإني عندكم أموت جوعا»(27). ويؤكد ذلك أيضاً ما قاله إسحاق الموصلي إنه: «لما أفضت الخلافة إلى المأمون أقام عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الغناء»(28). بل يبدو أن تلك الأوضاع الاقتصادية السيئة كانت موجودة منذ أواخر عهد الرشيد، يستدل على ذلك من عدم صرف الرشيد جائزة لزرياب بعد استحسانه لغنائه(29).
ومن أسباب رحيله أيضاً، طموح زرياب الكبير في الحصول على المجد والشهرة والمال، فهو- على حد وصف أستاذه اسحق:"لا يرى في الدنيا من يعدله"(30)- كان وراء رحيله الدائم حتى وقع على بغيته في الأندلس، فاستقر بها لأنه حقق فيها طموحه وأمانيه، ولعله عرّض بأمير إفريقية الأغلبي؛لأنه لم يجد عنده الرعاية والمكانة التي توقعها،تماماً كما فعل المتنبي بكافور الأخشيدي.
يبدو أن اتصالاته بالأمويين بدأت وهو في بلاط الأغالبة، فعقب طرده مباشرة من هناك، كاتب زرياب الحكم بن هشام الأموي أمير الأندلس يخبره بأنه رأس الصناعة التي ينتحلها، ويسأله الإذن في الوصول إليه»(31). فجاءه رد الحكم بالترحيب به، وبدعوته للقدوم إلى الأندلس، فعبر زرياب بعياله وولده مضيق جبل طارق إلى الجزيرة الخضراء، ولما وصلها بلغه خبر وفاة الحكم، وتولى ابنه عبد الرحمن الإمارة مكان أبيه، وخاف زرياب أن لا يكون عبد الرحمن محباً للغناء كأبيه، ففكر في العودة لكن رسول الحكم إليه، المغني منصور اليهودي، ثناه عن ذلك ونصحه بمكاتبة الأمير عبد الرحمن، فلما كتب إليه رحب به عبد الرحمن «وكتب إلى عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه قرطبة»(32).
دخل زرياب قرطبة فخصص له الأمير داراً لإقامته، وبعد أن استضافه ثلاثة أيام استدعاه لمقابلته، فاستمع إلى وصلة من غنائه، ثم طارحه الحديث في أحوال الملوك وسير الخلفاء، فوجده عالماً بها، فأعجب الأمير به، وراقه ما أورده «وقدّمه على جميع المغنين»(33).
وأجرى الأمير عبد الرحمن على زرياب وأولاده الأربعة الذين دخلوا معه إلى الأندلس رواتب شهرية، فجعل لزرياب مائتي دينار شهرياً، ولكل واحد من أبنائه عشرين ديناراً في الشهر، إضافة إلى ثلاثة آلاف دينار سنوياً لمصروفات الأعياد والمناسبات "لكل عيد ألف دينار، ولكل مهرجان ونوروز خمسمائة دينار»(34) وأقطعه من الحنطة والشعير ثلاثمائة مد لغذاء أسرته وعلف دوابه، ثلثها حنطة والباقي شعير." وأقطعه من الدور والضياع والبساتين ما يقوم بأربعين ألف دينار»(35). هذا سوى ما كان يأخذه عن الحفلات الغنائية التي يقيمها، والتي وصل ريع بعضها إلى ألف دينار، وهو ما لم يكن متيسراً لكبار العلماء والفقهاء في عصره، وعلى رأسهم الفقيه عبد الملك بن حبيب السلمي(36). حتى جمع ثروة طائلة فكان: «يركب في أكثر من مائة مملوك، وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع»(37), وحظي باحترام كبير ونال شهرة واسعة فمدحه الشعراء، ومنهم منجم الأمير عبد الرحمن ونديمه(38) والفقيه ابن عبد ربه(39) ،وألفت كتب عن حياته وفنه، فقد ذكر ابن حزم أن أسلم بن أحمد الأندلسي «صاحب تأليف في طرائف غناء زرياب وأخباره، وهو ديوان عجيب»(40).
أثره في الحياة الاجتماعية:
ساعدت ثقافة زرياب الموسوعية الشاملة، وتنقله من بغداد إلى المغرب فالأندلس، وما حظي به في البلاط الأندلسي من احترام ورعاية وتقدير، على تفجير طاقاته الإبداعية التي تجاوزت حدود المجال الفني إلى المجال الاجتماعي، فقد وضع للطبقات الراقية في الأندلس قواعد للسلوك وآداب الجلوس والمحادثة والطعام "حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنّه لهم من آدابه»(41) وسمّوه «معلم الناس المروءة»(42).
ففي مجال الطعام وآدابه درّبهم على إعداد مائدة راقية وأنيقة، تقدم فيها الأطباق حسب نظام وترتيب خاص، فًتُقدمُ أولا أطباق الشوربة والسواخن، تليها أطباق اللحم والطيور المتبلة بالبهارات الجيدة، وفي النهاية تقدم أطباق الحلوى من الفطائر المصنوعة من اللوز والجوز والعسل، والعجائن المعقودة بالفواكه المعطرة والمحشوة بالفتسق والبندق(43) . وأخذوا عنه استخدام آنية الزجاج الرفيع في موائدهم بدلاً من الأواني الذهبية والفضية(44) . لأن الزجاج أسهل تنظيفاً، وأجمل منظراً، وأقل كلفة. كما أخذوا عنه اختيار غطاء الموائد الخشبية من الأديم، أو الجلد الأملس الناعم بدلاً من غطاء الكتان، لأن الجلد أسهل للتنظيف «إذ الوضر (الوسخ) يزول عن الأديم بأقل مسحة»(45). وابتكر لهم ألواناً من الطعام لم يعرفوها من قبل، وأشهرها لون النقابا ولون التقلية(46) ، هذا إضافة إلى ما نقله لهم من ألوان الطعام البغدادي وطرق إعداده(47).
وعلمهم فن التجميل والعناية بالبشرة وإزالة رائحة العرق، «ومما سنّه لهم استعمال المرتك المتخذ من المرد اسنج لطرد ريح الصنان من جوانبهم. ولا شيء يقوم مقامه»(48). كما علمهم طرق الخضاب وإزالة الشعر، واستعمال ما يشبه معجون الأسنان في أيامنا(49)، وأدخل إليهم طرقاً لقص شعر الرأس وتسريحه لم يعرفوها من قبل، ذكر المقري أن زرياب دخل الأندلس وأهلها، نساءً ورجالاً يرسلون جممهم مفروقة إلى وسط الجبين، عامة للصدغين والحاجبين، «فلما رأى أهلها تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم، وتقصيرها دون جباههم، وتسويتها مع حواجبهم وتدويرها إلى أذانهم، وإسدالها إلى أصداغهم، هوت إليه أفئدتهم واستحسنوه»(50).
ووضع لهم نظاماً لارتداء الأزياء تبعاً لفصول السنة وتقلبات الجو، فرأى أن يلبس الناس الملابس القطنية البيضاء في فصل الصيف الذي يمتد في الأندلس من أواخر حزيران إلى أوائل تشرين الأول، وأن يلبسوا في فصل الخريف الثياب الملونة ذات الحشو والبطائن الكثيفة، وينتقلوا في فصل الشتاء عندما يقوى البرد الى أثخن منها من الملونات، ويستظهروا تحتها إذا احتاجوا بصنوف الفراء، ثم ينتقلوا في فصل الربيع إلى لبس جباب الخز والحرير والدراريع الملونة التي لا بطائن لها(51)، وعلّمهم تنظيف الملابس البيضاء مما يعلق بها من وضر (وسخ) بسبب استخدام بعض أنواع الطيب أو غيره، بوساطة تصعيدها بالملح حتى يبيض لونها(52).
------------------------------------------------------------------------
تناول هذا البحث حياة المغني والموسيقي زرياب، وأثره على الحياة الاجتماعية والفنية في الأندلس، ويشتمل على سيرته في بغداد، وتاريخ رحيله إلى الأندلس وأسبابه، وتأثيره في حياتها الاجتماعية في المأكل والملبس والسلوك، وفي حياتها الفنية بما أدخله من تحسينات على العود، وتلاميذه في الغناء والموسيقى، وقد توفي زرياب عام 243هـ عن عمر يناهز سبعين عاماً.
يُعد زرياب من موالي الخليفة العباسي المهدي، وقد ولد ببغداد في حدود سنة 173هـ، ثم تلقى تعليمه في مدرسة اسحق الموصلي الفنية ليصبح أشهر تلاميذها، وقد مكنه ذلك من الاتصال بالخليفة الرشيد في آخر أيامه، إلا أن تردي الأوضاع الاقتصادية في بغداد بسبب الفتنة التي أعقبت وفاة الرشيد، وخلافه مع أستاذه الموصلي، وخوفه على نفسه من المأمون لأنه كان من أنصار الأمين، ورغبته في تحقيق المجد والشهرة، دفعته إلى الهجرة إلى الأندلس، حيث حظي برعاية الإمارة الأموية فيها حتى وفاته، و نال خلال حياته فيها الشهرة والثراء الأمر الذي أثار عليه حقد حساده ومبغضيه، وترك زرياب أثاراً جمة في حياة أهلها الاجتماعية في المأكل والملبس، واستخدام مواد التجميل، هذا فضلاً عن التحسينات العديدة التي أدخلها على آلة العود، وفي مقدمتها إضافة الوتر الخامس فيه، ومدرسته التي خرّجت العديد من مغنيي وملحني الأندلس والمغرب وأوروبا.
سيرته قبل رحيله إلى بغداد :
هو أبو الحسن علي بن نافع الملقب بزرياب (1)، وقد غلب اللقب على الاسم حتى شهر به. وتعزو المصادر التاريخية، التي ترجمت لحياته، سبب اللقب إلى أن زرياب لقب به في بلده «لسواد لونه، مع فصاحة لسانه، وحلاوة شمائله، شبه بطير أسود غًرِدٍ عندهم». (2) لعله البلبل المشهور بعذوبة تغريده وسواد لونه.
في حين تذكر المعاجم اللغوية أن الكلمة فارسية معربة، وتعني الذهب أو الأصفر من كل شيء (3) ؛ أي أنه لقب بزرياب؛ لأنه صاحب صوت ذهبي. وقد وردت الكلمة في الشعر بمعنى الذهب، على لسان أحد شعراء العصر العباسي الأول يمدح مجلس أنس حضره فيقول:
في مجلس مطرت سماوة سقفه .. ثمر النعيم تخـاله زريـابـا
وحملت مغنية عاشت في العصر العباسي الأول اسم زرياب (5). وليس هناك ما يشير إلى أنها كانت سوداء اللون، وهذا يشعر بأن اللقب لا يتعلق بسواد اللون المقرون بجمال الصوت، فقد كان إبراهيم بن المهدي العباسي المعاصر لزرياب، مغنياً مشهوراً، عذب الصوت، أسود اللون(6). ولم يلقب بزرياب.
يفهم مما تقدم أن كلمة زرياب تعني الذهب، وأنها أطلقت على صاحب الصوت الجميل على سبيل المجاز تشبيهاً له بالذهب. وما زال هذا الوصف شائعاً حتى وقتنا الحاضر؛ إذ يقال لصاحب الصوت الجميل، إنه صاحب صوت ذهبي. على أن تفسير اللغويين والمؤرخين متقارب. إذ أن كليهما يدل على صاحب الصوت الجميل.
ولم تحدد المصادر الأولية التي اعتمد عليها البحث مكان ولادة زرياب وتاريخها، وينفرد بروفنسال من بين المراجع الحديثة التي ترجمت له بالقول: إن زرياب ولد في العراق سنة (173هـ/ 789م) (7) دون أن يشير إلى المصادر التي استقى منها معلوماته، ولا تذكر المصادر شيئاً عن طفولته سوى أنه من موالي المهدي العباسي (158-169هـ/ 774-785م) (8). وربما جاءه هذا الولاء عن طريق والده، لأن زرياب ولد بعد وفاة المهدي بسنوات عدة، وقدّمه إسحق الموصلي للرشيد على أنه عبد له (9).وربما يعود الغموض في سيرته الأولى إلى كونه مغموراً في صباه، فلم يهتم به أحد من المؤرخين.
تَلقّى زرياب تعليمه في مدرسة إسحق الموصلي* الفنية، التي تميزت باهتمامها برفع المستوى الثقافي لتلاميذها، فضلاً عن تعليمهم الموسيقى والغناء، فكانوا يتلقون دروساً في مختلف علوم عصرهم كالقرآن، والآداب، والتاريخ، يستشف ذلك من وصف اسحق الموصلي لبرنامج تعليمه اليومي، فيذكر بأنه كـان يبدأ يومه بدراسة القرآن عند الفراء (ت: 207هـ) والكسائي (ت: 183 هـ)، ثم يذهب فيتعلم عزف العود من خاله زلزل**، ويعقب ذلك برواية الأخبار والأشعار على الأصمعي (ت: 213 هـ) وأبي عبيدة (ت: 211 هـ)، ويختم برنامجه بدرس في الغناء عند عاتكة بنت شهدة (10) وقد انعكس ذلك على زرياب فتخرج من هذه المدرسة موسيقاراً بارعاً، ومغنياً لامعاً فضلاً عن معرفته بعلوم الفلك والجغرافية حسبما أورده المقري: «كان زرياب عالماً بالنجوم، وقسمة الأقاليم السبعة واختلاف طبائعها وأهويتها، وتشعب بحارها، وتصنيف بلادها وسكانها، مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها»(11). ويضيف المقري إلى ذلك «معرفته الواسعة بالتاريخ وأخبار الملوك، فلما رحل إلى الأندلس، وخلا به الأمير عبد الرحمن بن الحكم ذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء، ونوادر العلماء، فحرك منه بحراً زخر عليه مده، فأعجب الأمير به، وراقه ما أورده»(12). وبالإضافة إلى ذلك فقد كان زرياب شاعراً مجيداً (13) ومن شعره هذه الأبيات:
علقتهــا ريحانــة هيفاء عاطرة نضيــرة
بين السمينة والهزيلـة والطويلة والقصيـــرة
للــه أيــام لنــا سلفت على دير المطيـرة
لا عيـب فيها للمتيـم غير أن كانت قصيــرة
وقد ساعدت هذه الثقافة الشاملة على تفجير طاقاته الإبداعية في النواحي الاجتماعية والفنية فيما بعد.
رحيله عن بغداد إلى الأندلس:
تعزو بعض المصادر سبب رحيله عن بغداد إلى حسد أستاذه الموصلي له، وخوفه من أن يحتل زرياب مكانه عند الرشيد بعد أن نال غناؤه وعزفه إعجـاب الخليفة(15). ورددت ذلك الدراسات الحديثة التي تناولت الموضوع دون نقد أو تمحيص16). ويورد المقري القصة بتفاصيلها فيذكر أن الخليفة هارون الرشيد طلب من إسحق الموصلي أن يسمعه صوت مغنّ مجيد الصنعة لم يسبق للخليفة أن سمعه من قبل. فاقترح عليه إسحق أن يأتيه بغلامه زرياب الذي يعود الفضل إليه في اكتشاف موهبته وتعليمه، «وهو من اختراعي واستنباط فكري، وأحدس أن يكون له شأن»(17). وتوقع أن تزيده نجابة تلميذه حظوة عند الخليفة، لكن الأمور جاءت بخلاف ما تمناه، فلما دخل زرياب على الرشيد بدا واضحاً أنه واثق من نفسه معتد بفنه، فقد رفض أن يستخدم عود أستاذه، وطلب من الخليفة أن يأذن له باستخدام عوده الشخصي الذي أحضره معه، ولم ير الرشيد في عود زرياب ما يختلف عن عود أستاذه، فقال لزرياب: "ما أراهما إلا واحداً ". لكن زرياب بيَّن للخليفة أن التشابه في الشكل الخارجي فقط، وأن هناك فروقاً جوهرية غير ظاهرة منها، أن عوده أخف وزناً من عود أستاذه، كما أن أوتاره أمتن وأفضل أداء للنغم، فأعجب الرشيد بوصفه وسمح له في الغناء بعوده، فلما أتم غناءه طار الرشيد طرباً، وقال لإسحق:"خذه إليك وأعتن بشأنه حتى أفرغ له، فإن لي فيه نظراً"(18).
هاج بإسحق الحسد، فخلا بزرياب، ووبخه على إخفائه قدراته عنه، وعبر له عن مخاوفه من إعجاب الرشيد به قائلاً: «قد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك، وقصدت منفعتك، فإذا أنا قد أتيت على نفسي من مأمنها بإدنائك، وعن قليل تسقط منزلتي وترقى أنت فوقي، وهذا مالا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي». (19) وخيـره بيـن أمريـن: الرحيل عن بغداد إلى جهة لا يسمع فيها خبره، أو البقاء فيها رغماً عنه، وعندها فإنه، أي إسحق، لن يدخر وسعا في القضاء عليه. فاختار زرياب الرحيل، وأعانه اسحق بالمال والظهر، ورحل زرياب عن بغداد، واتصل بالأمويين في الأندلس، وانتقل إليها في مطلع إمارة عبد الرحمن بن الحكم سنة (206هـ/ 821م)(20).
ويفهم من رواية المقري أن رحيل زرياب من بغداد إلى الأندلس تم مباشرة بعد انتهاء الحفلة التي قدمها أمام الرشيد، وهذا بعيد عن الاحتمال كما سنرى، فالرشيد توفي خارج بغداد، وبالتحديد في مدينة طوس، وهو خارج لقمع ثورة رافع بن الليث سنة (193هـ/808م) (21) بينما دخل زرياب الأندلس في الأيام الأولى من حكم الأمير عبد الرحمن بن الحكم سنة (206هـ/821م) (22). وإذا افترضنا أن زرياب التقى الرشيد في مطلع السنة التي توفي فيها، فإن هناك ما يقارب ثلاثة عشر عاماً بين رحيله عن بغداد ووصوله إلى الأندلس، لا يورد المقري شيئاً عنها. وهذا يدعو إلى الشك في رحيله عن بغداد زمن الرشيد، وهو ما تؤكده رواية ابن القوطية التي تذكر أن رحيله عن بغداد تم في مطلع خلافة المأمون، بسبب خوفه على نفسه؛ لأنه كان من المقربين للأمين، وهذا نص الرواية: «قدم زرياب على الأمير عبد الرحمن بن الحكم رحمه الله، وكان بالمحل القريب من الأمير محمد بن هارون، الأمين، وكان المأمون الوالي بعد الأمين فعدد عليه أشياء. فلما قتل الأمين فر إلى الأندلس، فحل من عبد الرحمن بن الحكم بكل محل»(23). وكان مقتل الأمين سنة (198هـ/813م).
وأول إشارة عن وصول زرياب إلى افريقية تقول إنه دخلها في عهد الأمير الأغلبي زيادة الله الأول (201-223 هـ / 816 – 837م)(24). إذ يذكر ابن عبد ربه أن زرياباً: «انتقل إلى القيروان إلى بني الأغلب، فدخل على زيادة الله بن إبراهيم»(25) في سنة (206 هـ/ 821م)، وأنه لم يمكث طويلاً هناك، لأنه عرض بأميرها في غنائه فغضب عليه وجلده، وأمره بالخروج من القيروان في مدة أقصاها ثلاثة أيام، وقال له: «إن وجدتك في بلدي بعد ثلاثة أيام ضربت عنقك «فجاز البحر إلى الأندلس»(26). وهذا يشعر أنّ زرياباً لم يرحل عن بغداد بسبب حسد أستاذه له، وخوفه على نفسه من المأمون فقط، وأن هناك أسباباً أخرى لا تقل أهمية عن هذه الأسباب، منها: كساد سوق الغناء في بغداد خاصة والعراق عامة في أثناء الفتنة بين الأمين والمأمون، وتردي أوضاع المغنين الاقتصادية الأمر الذي جعل معاصريه من مغنيي بغداد يغبطونه على المكانة التي حصل عليها عند الأمويين في الأندلس، يتضح ذلك بصورة جلية من قول علوية، مولى بني أمية*** ، ومغني المأمون، وقد لامه الأخير على ذكر بني أمية بحضرته: «يا أمير المؤمنين، أتلومني أن أذكر موالي بني أمية، وهذا زرياب مولاك عندهم بالأندلس، يركب في أكثر من مائة مملوك، وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع، وإني عندكم أموت جوعا»(27). ويؤكد ذلك أيضاً ما قاله إسحاق الموصلي إنه: «لما أفضت الخلافة إلى المأمون أقام عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الغناء»(28). بل يبدو أن تلك الأوضاع الاقتصادية السيئة كانت موجودة منذ أواخر عهد الرشيد، يستدل على ذلك من عدم صرف الرشيد جائزة لزرياب بعد استحسانه لغنائه(29).
ومن أسباب رحيله أيضاً، طموح زرياب الكبير في الحصول على المجد والشهرة والمال، فهو- على حد وصف أستاذه اسحق:"لا يرى في الدنيا من يعدله"(30)- كان وراء رحيله الدائم حتى وقع على بغيته في الأندلس، فاستقر بها لأنه حقق فيها طموحه وأمانيه، ولعله عرّض بأمير إفريقية الأغلبي؛لأنه لم يجد عنده الرعاية والمكانة التي توقعها،تماماً كما فعل المتنبي بكافور الأخشيدي.
يبدو أن اتصالاته بالأمويين بدأت وهو في بلاط الأغالبة، فعقب طرده مباشرة من هناك، كاتب زرياب الحكم بن هشام الأموي أمير الأندلس يخبره بأنه رأس الصناعة التي ينتحلها، ويسأله الإذن في الوصول إليه»(31). فجاءه رد الحكم بالترحيب به، وبدعوته للقدوم إلى الأندلس، فعبر زرياب بعياله وولده مضيق جبل طارق إلى الجزيرة الخضراء، ولما وصلها بلغه خبر وفاة الحكم، وتولى ابنه عبد الرحمن الإمارة مكان أبيه، وخاف زرياب أن لا يكون عبد الرحمن محباً للغناء كأبيه، ففكر في العودة لكن رسول الحكم إليه، المغني منصور اليهودي، ثناه عن ذلك ونصحه بمكاتبة الأمير عبد الرحمن، فلما كتب إليه رحب به عبد الرحمن «وكتب إلى عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه قرطبة»(32).
دخل زرياب قرطبة فخصص له الأمير داراً لإقامته، وبعد أن استضافه ثلاثة أيام استدعاه لمقابلته، فاستمع إلى وصلة من غنائه، ثم طارحه الحديث في أحوال الملوك وسير الخلفاء، فوجده عالماً بها، فأعجب الأمير به، وراقه ما أورده «وقدّمه على جميع المغنين»(33).
وأجرى الأمير عبد الرحمن على زرياب وأولاده الأربعة الذين دخلوا معه إلى الأندلس رواتب شهرية، فجعل لزرياب مائتي دينار شهرياً، ولكل واحد من أبنائه عشرين ديناراً في الشهر، إضافة إلى ثلاثة آلاف دينار سنوياً لمصروفات الأعياد والمناسبات "لكل عيد ألف دينار، ولكل مهرجان ونوروز خمسمائة دينار»(34) وأقطعه من الحنطة والشعير ثلاثمائة مد لغذاء أسرته وعلف دوابه، ثلثها حنطة والباقي شعير." وأقطعه من الدور والضياع والبساتين ما يقوم بأربعين ألف دينار»(35). هذا سوى ما كان يأخذه عن الحفلات الغنائية التي يقيمها، والتي وصل ريع بعضها إلى ألف دينار، وهو ما لم يكن متيسراً لكبار العلماء والفقهاء في عصره، وعلى رأسهم الفقيه عبد الملك بن حبيب السلمي(36). حتى جمع ثروة طائلة فكان: «يركب في أكثر من مائة مملوك، وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع»(37), وحظي باحترام كبير ونال شهرة واسعة فمدحه الشعراء، ومنهم منجم الأمير عبد الرحمن ونديمه(38) والفقيه ابن عبد ربه(39) ،وألفت كتب عن حياته وفنه، فقد ذكر ابن حزم أن أسلم بن أحمد الأندلسي «صاحب تأليف في طرائف غناء زرياب وأخباره، وهو ديوان عجيب»(40).
أثره في الحياة الاجتماعية:
ساعدت ثقافة زرياب الموسوعية الشاملة، وتنقله من بغداد إلى المغرب فالأندلس، وما حظي به في البلاط الأندلسي من احترام ورعاية وتقدير، على تفجير طاقاته الإبداعية التي تجاوزت حدود المجال الفني إلى المجال الاجتماعي، فقد وضع للطبقات الراقية في الأندلس قواعد للسلوك وآداب الجلوس والمحادثة والطعام "حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنّه لهم من آدابه»(41) وسمّوه «معلم الناس المروءة»(42).
ففي مجال الطعام وآدابه درّبهم على إعداد مائدة راقية وأنيقة، تقدم فيها الأطباق حسب نظام وترتيب خاص، فًتُقدمُ أولا أطباق الشوربة والسواخن، تليها أطباق اللحم والطيور المتبلة بالبهارات الجيدة، وفي النهاية تقدم أطباق الحلوى من الفطائر المصنوعة من اللوز والجوز والعسل، والعجائن المعقودة بالفواكه المعطرة والمحشوة بالفتسق والبندق(43) . وأخذوا عنه استخدام آنية الزجاج الرفيع في موائدهم بدلاً من الأواني الذهبية والفضية(44) . لأن الزجاج أسهل تنظيفاً، وأجمل منظراً، وأقل كلفة. كما أخذوا عنه اختيار غطاء الموائد الخشبية من الأديم، أو الجلد الأملس الناعم بدلاً من غطاء الكتان، لأن الجلد أسهل للتنظيف «إذ الوضر (الوسخ) يزول عن الأديم بأقل مسحة»(45). وابتكر لهم ألواناً من الطعام لم يعرفوها من قبل، وأشهرها لون النقابا ولون التقلية(46) ، هذا إضافة إلى ما نقله لهم من ألوان الطعام البغدادي وطرق إعداده(47).
وعلمهم فن التجميل والعناية بالبشرة وإزالة رائحة العرق، «ومما سنّه لهم استعمال المرتك المتخذ من المرد اسنج لطرد ريح الصنان من جوانبهم. ولا شيء يقوم مقامه»(48). كما علمهم طرق الخضاب وإزالة الشعر، واستعمال ما يشبه معجون الأسنان في أيامنا(49)، وأدخل إليهم طرقاً لقص شعر الرأس وتسريحه لم يعرفوها من قبل، ذكر المقري أن زرياب دخل الأندلس وأهلها، نساءً ورجالاً يرسلون جممهم مفروقة إلى وسط الجبين، عامة للصدغين والحاجبين، «فلما رأى أهلها تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم، وتقصيرها دون جباههم، وتسويتها مع حواجبهم وتدويرها إلى أذانهم، وإسدالها إلى أصداغهم، هوت إليه أفئدتهم واستحسنوه»(50).
ووضع لهم نظاماً لارتداء الأزياء تبعاً لفصول السنة وتقلبات الجو، فرأى أن يلبس الناس الملابس القطنية البيضاء في فصل الصيف الذي يمتد في الأندلس من أواخر حزيران إلى أوائل تشرين الأول، وأن يلبسوا في فصل الخريف الثياب الملونة ذات الحشو والبطائن الكثيفة، وينتقلوا في فصل الشتاء عندما يقوى البرد الى أثخن منها من الملونات، ويستظهروا تحتها إذا احتاجوا بصنوف الفراء، ثم ينتقلوا في فصل الربيع إلى لبس جباب الخز والحرير والدراريع الملونة التي لا بطائن لها(51)، وعلّمهم تنظيف الملابس البيضاء مما يعلق بها من وضر (وسخ) بسبب استخدام بعض أنواع الطيب أو غيره، بوساطة تصعيدها بالملح حتى يبيض لونها(52).